المساواة المكذوبة

00:35 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

سعتِ السّياسات الغربيّة المهيمنة، منذ زمنٍ بعيد، إلى إشاعة وهْمٍ سياسيّ لدى القسم الأعظم من البشريّة مقتضاهُ أنّ العلاقة بين الأمم والدّول - كبيرها والصّغير- تقوم على المساواة أمام قانونٍ كونيّ ناظم هو القانون الدّوليّ. لم يتوقّف الخطابُ السّياسيّ والإعلامي الغربي، طَوال حقبةٍ مديدة، عن محاولاته «بيانَ» تبدّيات تلك المساواة ووجوهَ الكونيّة فيها متوسِّلاً، في تلك الإبانة، نصوصاً لا دليلَ على صدْقيّتها في الواقع السّياسيّ العالميّ وفي جملتها ميثاق الأمم المتّحدة والإعلانات الورديّة الصّادرة عن هذه المنظّمة، وهي المُنتَهَكَة والمُداسة يوميّاً!
والأغربُ من حيلة اللّجوء إلى النّصوص المجمَّدة، التي يُعادُ ترتيلُها برتابةٍ، أنّ مَن يُمعِنون في تدوير هذا الخطاب المزعوم عن كونيّة قيمة المساواة لا يتحرّجون في فعْل ذلك، بدأْبٍ، على الرّغم من انفضاح دعوى الخطاب هذا وتبيُّن مجافاته المطلَقة لواقع الحال، حيث ما من مظهرٍ واحدٍ لمثل تلك المساواة، ليس فقط بين الحُكّام (بلدان الغرب) والمحكومين في العالم (شعوب الجنوب ودُوله)، بل حتّى في عقر دار الغرب: بين الحاكم بأمره (السّيّد الأمريكيّ) والأتباع الخاضعين لسلطانه (بلدان أوروبا، اليابان وكوريا الجنوبيّة).
يسوق سَدَنَةُ هذا الخطاب الغربيّ عن المساواة المزعومة بين الأمم، ثمّ بين الدّول، دليلاً يحتجّون به لمقالتهم، مفادُه أنّ فكرة المساواة تقع في قلب المبادئ التي قام عليها الغرب ومدنيّته الحديثة. وكثيراً ما يُشار إلى تراثٍ فلسفيّ في عهد الأنوار بلغت فيه فكرةُ المساواة ذُراها في فلسفة جان جاك روسو، ثمّ يُثَنَّى بعدها بالإشارة إلى ما صار للفكرة تلك من تنزيلٍ سياسيّ في الواقع بعد أن أنفذتْها الثّورةُ الفرنسيّة واتّخذتها ثالثَ ثلاثةٍ في شعارها، بل بعد أن رفعتْ مبدأ المساواة إلى مرتبةٍ عَلَتْ في المكانةِ مرتبةَ مبدأ الحرّيّة: خلافاً للتّقليد الإنجليزيّ والأمريكيّ الذي أَحَلَّ الحرّيّة المحلَّ الأوّل في منظومته المبادئ السّياسيّة الحديثة.
والحقُّ أنّ التّراث النّظريّ والفلسفيّ الأوروبيّ الدّائرَ على مسألة المساواة مِن الغنى بحيث لا يمكن أن تُجْحَد فائدتُه، بل عليه كان مَبْنَى السّياسة التي شقّتِ السّبيل نحو الثّورة الفرنسيّة. على أنّ هذا الاعترافَ بصنيع أوروبا الأنوارِ والثّورةِ في مضمار إعلاء مبدأ المساواة وتأسيس السّياسة والدّولة عليه، لا يملك أن يحجُب حقيقتيْن سياسيّتين يقوم بهما دليلٌ معاكس على أنّ مبدأ المساواة يفتقر إلى حاملٍ سياسيّ يحمله من النّطاق الضّيّق للمجتمع السّياسيّ (الوطنيّ) إلى رحاب المجتمع الإنسانيّ كلِّه، وإلى نطاقه السّياسيّ- الكيانيّ الجامع المعروف باسم «المجتمع الدّوليّ» وبالتّالي، يمتنع معه الزّعمُ الرّائج بأنّ المساواة مبدأ كونيّ.
تتعلّق الحقيقة الأولى بتلك الفجوة التي ما فتئت تتّسع بين الهندسات السّياسيّة التّأسيسيّة للنّظام الحديث - وهي تعود إلى القرنين السّابع عشر والثّامن عشر- وهندسةِ النّظام السّياسيّ الدّولي في منتصف القرن العشرين. إنّها الفجوة المَهُولَة بين نموذج نظام الدّولة الوطنيّة الحديثة ونموذج نظام الأمم المتّحدة أو «المجتمع الدّولي». ولا يعني القولُ، عندنا، بالفجوة بين النّظامين سوى القول بالتّجافي بين المبادئ والقواعد التي يقوم عليها كلٌّ منهما والتّشديد بالتّالي، على أنّ الثّاني منهما لا يمثّل امتداداً للأوّل أو صورةً مكبَّرة له، بل هو ينتمي إلى ما قبل نموذج الدّولة الوطنيّة في قواعده الحاكمة.
ليس من مساواةٍ في النّظام الدّوليّ ولا من فصْلٍ بين السّلطات ولا من علاقات ديمقراطيّة بين قُواه لأنّ ما يتمتّع به المواطنون من حقوقٍ، داخل إطار الدّولة الحديثة، لا يتمتّع به السّوادُ الأعظم من المنتمين إلى «المجتمع الدّوليّ» داخل نظامه الدّوليّ. لذلك لا قيمة لكلّ خطابٍ إيديولوجيّ يتغيّا إيهام المُخَاطَب به أنّ المساواة قيمةٌ من القيم السّياسيّة الكونيّة لمجرّد أنّ فكرتها تبلورت في أوروبا وصارت غربيّة، أو لمجرّد أنّ القوى التي تتحكّم في إدارة النّظام الدّوليّ قوًى غربيّة.
أمّا الحقيقة الثّانية فتكمن في أنّ السّياسات الغربيّة تتمظهر في صورتيْن على طرفي نقيض، فهي، من وجْهٍ، قائمة على احترام حقوق مواطني الدّول الغربيّة وعلى وزنها بميزان المساواة أمام القانون، على النّحو الذي سمح بتكوُّن منظومة المواطَنة فيها، وهي، من وجْهٍ ثانٍ، لا تنظر إلى السّواد الأعظم من دول العالم - التي تقع خارج الغرب - بما هي متساوية في الحقوق معها، ولا تكُفّ عن ترجمة هذه النّظرة التّمييزيّة إلى سياساتٍ مادّيّة تجاه بلدان تستكثر عليها حقوقاً تتمتّع بها بلدان الغرب.
ومع أنّ هذه السّياسات باتت على قدْرٍ كبيرٍ ملحوظ من الانفضاح، إلاّ أنّ الدّول الكبرى الماسكة بخناق النّظام الدّوليّ لا تكفّ عن الزّعم بكونيّة مبدأ المساواة وحاكميّته للعلاقات بين الأمم، ولا عن الزّعم بأنّها ماضية في سياسةِ العالم بمثل ما ساستْ به مجتمعاتها! وما أغنانا عن القول إنّ هذا الادّعاء الإيديولوجيّ شأنٌ في غاية السّخف، فلقد يكفي احتكارُ الدّول الكبرى حقَّ ممارسة مبدأ النّقض (الفيتو) دليلاً على انعدام المساواة بينها وغيرِها من دول العالم الأخرى، بل إنّ أزعومة كونيّة مبدأ المساواة يدحضها أنّ العلاقة بين الكبار أنفسِهم ليست متكافئة، وأنّهم ليسوا متساوين كما يزعمون في الحقوق والفرص، وأنّ العلاقة بينهم علاقةُ سيّدٍ حاكمٍ بأتباعٍ مأمورين منه!

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"