أَخْلَقَة مستحيلة لحرب جوهرها الشر

00:58 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لا يقول المرءُ شيئاً جديداً حين يعرِّف الحرب بأنها ذلك الفعل الاجتماعي التدميريّ الذي يهبط بإنسانية الإنسان إلى دَرْكٍ أسفل، بل يصادر منه إنسانيته ويعيد إحياء الحيواني فيه، فالقول هذا قد لا يكون موضع خلافٍ بين الناس لانطباق محموله على موضوعه، حتى أنه قد لا يوجد مَن يشك في صحته في أيّ مكانٍ أو زمان. على أنّ التعريف المُسلَّم به هذا للحرب يُدْرَك بمعْنيْن: بمعنى أنّ الحربَ تأتي على الناس الذين تقع عليهم تمزيقاً لكينونتهم وحطاً من كرامتهم وزرايةً بهم، ثمّ بمعنى أنّ من يمارسونها ويخوضون فيها يعبرون عن درجةٍ كبيرة من الانحطاط في إنسانيتهم تنزل بهم إلى أدنى مراتب القيم الإنسانية. إنّها، إذن، فعْلٌ تدميري يأتي على جهتيْها معاً: مَن يشنونَها ومَن تُشَن عليهم، القاتلون والقتلى، الجلادون والضحايا.
ولأنّ الحرب تعبيرٌ عن عودة المكبوت الحيواني/ الغرائزي في الإنسان أو عن انبعاثٍ جديدٍ له، فإنّ لها وضعاً محدَّداً في منظومة القيم الأخلاقية يحسُن بالباحث فيها أن يعتني به وأن لا يَذهل عنه. ليس بِدْعاً أن يُنظر إلى الحرب - من وجهة نظر الأخلاق العامة السائدة في المجتمعات الإنسانيّة - بوصفها تعبيراً عن الشر، صادرةً عن وجدانٍ شرير ومُضْمِرَةً هدفَ إيقاع الشر بمن يقع عليه فعلُها: جيشاً كان أو مجتمعاً أو شعباً وكياناً سياسياً.
ما يُولَد من جوف الحرب من نتائجَ وأوضاعٍ لا يمكن أن يكون إلا جزءاً من أفعال الشر: القتل، التدمير والخراب، التهجير والتشريد، الظلم... إلخ بعضٌ من أمثلة تلك التبعات. ثم إنّ الحرب شرٌّ مطلَق لأنّها تهبِط بالفعل الإنساني من عاقليته - التي هي شرطٌ لازبٌ لإنسانيته - إلى غرائزيته الحيوانية، ثم لأنّها تفعل نقيض ما اجترحته ديناميات الأنسنة، عبر التّاريخ المديد، من ترويضٍ للحيواني في الإنسان ومن تهذيبٍ لمنازعه العدوانية وأَخْلَقَةٍ لسلوكه، أي نقيض كل تلك السيرورة التي أفضت إلى استقلال الإنسان عن النظام الحيواني وإلى ميلاد الكينونة الإنسانية الخاضعة لإملاءات العقل والمتشبعة بقيم الخير العليا. وهل من شرٍّ مطلق أكثر من أن تكون الحرب مقْتلةً للروح الإنساني العميق، المصقول بالتربيّة وتعاليم الدين ومنظومة الأخلاق، وتفجيراً للمكبوت الحيواني؟!
قد يُقال إنّ الحرب لم تكن دائماً في التاريخ فعلاً اختيارياً مرغوباً فيه، بل كثيراً ما أُكرِهَت عليها جماعاتٌ كثيرة فوجدت نفسها تخوض في أوحالها دفاعاً عن نفسها ضد مَن اعتدى عليها بالقوّة لمصلحةٍ لديه في ذلك. الاستدراك هذا صحيح ويقرِّر واقعاً تَكَرَّر حدوثُه في التاريخ، إذْ كم من حربٍ عدوانية فُرِضت على مجتمعٍ أو أمة من غير أن يَكون لهما ترتيبٌ أو ضِلعٌ فيها ولا رغبةٌ أو مصلحةٌ في خوضها، فوجد المحارَب فيها نفسه محارِباً، والحال إنّه ما من شريعة وما من منطق يمكنهما المساواة بين المعتدي والضحيّة والحكم على مقاومة المعتَدَى عليه بمثل الحكم على عدوان المعتدي. حتى في الأديان التوحيدية - خاصة المسيحية والإسلام - وقَع التسويغُ للحرب الدفاعية في تعاليمهما ونصوص مؤسساتهما اللاهوتية والفقهية، فأقرتِ الكنيسة، منذ أزمنةٍ مبكرة، بما أسمتهُ الحرب العادلة وأقرّ الإسلام بالجهاد بما هو جهادُ دَفْعٍ يُراد به ردُّ عدوان المعتدي وحِفظ الحوزة.
والواقع أنّ في كلّ حربٍ حالةً دفاعية يبررُ وجودَها قيامُ حالةٍ عدائية أو حالة عدوان فيها، لذلك ينصرف وصفُ الحرب بالشر والعدوان إلى تعيين حالةٍ منها بعينها دون أخرى هي حالة الاعتداء الحربي، أما الدفاع فيصير - هنا - حقاً مشروعاً لا غبار عليه، ولقد كانت حروب التحرُّر الوطني والاستقلال - بهذا المعنى وطَوال التّاريخ الحديث - حروباً دفاعية مشروعة للدّفاع عن النفس وعن الحقوق المهضومة من قبل قوى الاستعمار والاحتلال. وهي ما كانت مشروعة في نظر من خاضوها، من باب المدافَعة عن أنفسهم وأراضيهم وأوطانهم، بل حتى في نظر القسم الأعظم من البشرية الذي نجح في شرعنتها بقوة أحكام القانون الدولي.
مع أنّ الحرب فعْلٌ من أفعال الشر ينتهك الحق في الحياة ويُودي بقانونٍ من قوانين الطبيعة والاجتماع الإنساني، هو قانون السلم (وهو الذي يضمن قانون البقاء)، إلا أنّ خروجها عن الأخلاق (أخلاق الخير بالتحديد) لم يمنع من يمارسونها ويتوسلونها أداةً لتعظيم مصالحهم من أن يؤسسوا لها أخلاقيّات خاصة تَتَشَرْعَن بها وتُبْنَى عليها قواعدُها وتُحْتَرَم من أي انتهاك.
ولقد أُحيطتْ عمليةُ السعي إلى أَخْلَقَة الحرب، فعلاً، بمنظوماتٍ من القوانين والتشريعات التي انصرفت إلى تنظيم الحروب وفقاً لمبادئ القانون الدولي، وظلت عملية تقنينها مستمرةً بحيث تستوعب كل جديد: من اتفاقيات جنيف حول حماية المدنيين أثناء الحروب، مثلاً، إلى حظر استخدام أسلحة الدمار الكلي: النووية والكيماوية والبيولوجية، إلى حظْر انتشارها... إلخ. ولكن، ماذا فعل هذا التّقنين - الذي تَغَيا الحد من آثار الحروب ومآسيها - أكثر من أنّه أسبغ المشروعية عليها وأقر بالحق فيها إن كان حقاً قانونياً أو يشهد له القانون؟ ثم هل غير تقنينها في شيءٍ من مضمونها كعدوانٍ غاشم، ومن قيمتها كشر مطلق؟

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"