أجواء الحرب الباردة

04:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
لكي نفهم ما يدور في أواكرانيا وبخاصة في شبه جزيرة القرم علينا أن نعود لبضعة أشهر إلى الوراء، وبالتحديد إلى الاستعدادات الامريكية الحثيثة لضرب سوريا، فقبل ساعتين تماماً من الموعد المقرر للضربة العسكرية لهذا البلد تراجع الرئيس باراك أوباما وقرر أن يعتمد الحل الروسي للأزمة الكيماوية، وكان التراجع يعني بوضوح أن المنهاج الأمريكي التقليدي لحل الأزمات عبر العمل العسكري ما عاد قائماً وأن منعطفاً جديداً في ميزان القوى العالمي قد انطلق ابتداء من تلك اللحظة .
سيتأكد هذا التقدير لاحقاً عبر جملة من المؤشرات لعل أبرزها الحديث الأمريكي المتصاعد عن الانسحاب من الشرق الأوسط وعن أولويات جديدة لواشنطن تصبّ كلها في خانة واحدة هي أن هذا البلد ما عاد يريد أو يستطيع تحمل مسؤولياته كقوة وحيدة على رأس عالمنا الحالي .
وللذين لم يرغبوا في إعطاء هذه المؤشرات معناها الحقيقي والعميق، أعلنت واشنطن عن إجراءات لا تخطئ، من بينها تخفيض موازنة وزارة الدفاع وتخفيض حجم القوات الأمريكية في قواعد عسكرية كثيرة في العالم، فضلاً عن التفاوض مع أعداء كانوا مرشحين للقتل أو الإلغاء في عهود سابقة شأن طالبان أفغانستان وباكستان مؤخراً .
هذا المنعطف الأمريكي الجديد أخذه الزعيم الروسي على محمل الجد وتصرف في ضوئه حين وصل الأمر إلى حديقته الخلفية في أوكرانيا، فبدا رد فعله أسرع من المعتاد . فقد بادر إلى مناورة عسكرية سريعة وغير مسبوقة عبر تحريك 150 ألف جندي على مقربة من أوكرانيا خلال أيام موحياً بسيناريو عسكري للمجابهة مع هذا البلد الذي يضم جيشاً عدده أقل من 120 ألف جندي وسلاحه الروسي ينتمي إلى أكثر من 30 عاماً إلى الوراء . وعندما قررت الحكومة الانقلابية في كييف توقيع الشق السياسي من اتفاق الشراكة مع أوروبا في 17 أو 21 مارس/آذار الجاري أعلنت شبه جزيرة القرم استفتاء في 16 مارس/آذار على الانضمام إلى روسيا الاتحادية .
وإذ اعتبر الغربيون هذه الخطوة غير شرعية وتشكل خرقاً للقانون الدولي، رد بوتين مدافعاً بأن حكومة القرم شرعية وأن القانون الدولي لا يمنعها من اتخاذ القرار الذي تراه مناسباً بالنسبة لمستقبلها . ومن ثم مهاجماً الحرب على أفغانستان، وعلى العراق وفي كوسوفو، وكلها لم توافق روسيا عليها، وكلها كانت ضد القانون الدولي . وذهب إلى أبعد من ذلك بالقول إن كل من لا يوافق الغربيين على رؤيتهم يعتبرونه عدوا ومن ثم يبدأون بتجميع العالم ضده . وختم بالقول إن مثل هذه الإملاءات لا مكان لها بعد اليوم وأن مصالح روسيا والروس يجب أن تحظى بالحماية، وأنه سيفعل ذلك بوصفه واجباً يحتمه موقعه كمسؤول أول عن مصالح بلاده . فهل يسير إلى النهاية في هذه الوجهة مهدداً العالم بحرب باردة جديدة وهل ما زال الحل الدبلوماسي الذي دعا إليه متاحاً؟
إذا ما عدنا إلى السابقة الجورجية حيث ضرب بقوة ودعم استقلال أوسيتيا الجنوبية مهدداً بالعمق وحدة أراضي جورجيا فإننا لا نرى كيف يمكن لبوتين أن يتراجع في الملف الأوكراني خصوصاً أن التراجع يطيح بكل الأوراق التي جمعها حتى اليوم وجعلته الند شبه الأوحد للولايات المتحدة في العالم . بالمقابل لا يمكن لحل دبلوماسي للأزمة الأوكرانية أن يكون مقبولاً من الروس إلا إذا أعاد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب الأخير وبالتالي رجوع الرئيس الشرعي الأوكراني يانوكوفيتش إلى مقره، وهذا يعني هزيمة الانقلابيين والغربيين الذين لن تراهن عليهم بعد اليوم الجماعات الرافضة للهيمنة الروسية في دول أوروبا الشرقية السابقة . يبقى الحل الوسط الذي يفيد الطرفين، بيد أن من الصعب قياس الوسط في هذا الحل إلا في حال تجميد الوضع الأوكراني عند النقطة الراهنة وفي سياق ما يمكن ان يعتبر "ميني" حرب باردة فهل تصح هذه الفرضية وهل تعود عقارب الساعة إلى الوراء؟
بداية لا بد من التنبيه إلى أن الحرب الباردة كانت متعددة الوجوه وكان وجهها الأيديولوجي طاغياً باعتبار أن كلاً من المعسكرين الغربي والشرقي يريد تغيير العالم باتجاه مناقض للآخر على كل صعيد، أي توفير السيادة الدولية لنمط حياة من دون غيره: الشيوعية وديكتاتورية البروليتاريا بالنسبة لموسكو وبكين، والرأسمالية والحكم الديمقراطي بالنسبة لأمريكا وأوروبا .
لا مجال للنقاش في الانتصار الشامل الذي حققه الغرب في الحرب الباردة وسيادة النظام الرأسمالي العالم بأسره بما في ذلك روسيا التي تعتمد اقتصاد السوق والانتخابات الديمقراطية وبالتالي يصعب الحديث عن عودة الحرب الباردة بلا أيديولوجية ومشروع كوني الأمر الذي يفتح الباب على تعددية قطبية بتعدد مراكز النفوذ وبالتالي فرض احترام المصالح بالقوة العسكرية والاقتصادية ومواقع النفوذ في العلاقات الدولية ولعل هذه الصيغة هي الأقرب إلى الصراع الدائر حول أوكرانيا اليوم رغيم الضجيج الغربي المبالغ فيه حول تأديب روسيا .
إن اجتماع كل هذه القدر من الضغوط والإرادات حول أوكرانيا يعني أن أحداً لا يريد التراجع وأن كافة الأطراف مصممة على كسب هذه المعركة، وأن حسمها سيحدد من يتحكم بمصير العالم منفرداً من دون غيره أو بالاتفاق مع غيره . من حق الأوكرانيين إن شعروا بالهلع الشديد لأن هذا يعني أن أوكرانيا ستقسم بين الروس والأوروبيين تماماً، كما كانت الحال في ألمانيا بعد الحرب الباردة . وفي السياق قد ينطلق من هذا المكان مشروع التعددية القطبية التي تعني في ما تعنيه أن مجموعة من القوى العظمى ستتفق فيما بينها على حماية مصالحها ضمن نظام دولي رادع، لكن كيف ومتى يستقر هذا النظام؟ وما شكل العالم الذي يقوده؟ لعل هذا سؤال المليون كما يقولون في المسابقات التلفزيونية .

فيصل جلول

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"