أردوغان ينظر إلى العرب بعين عثمانية

04:06 صباحا
قراءة 4 دقائق
فاز رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية في تركيا بنسبة تفوق ال 52 في المئة من الأصوات، كما توقعت استطلاعات الرأي المحلية التي رجحت أن يكون من الدورة الأولى . ويتوج هذا الفوز مسيرة سياسية طويلة بدأها الرجل في العام 1994 عندما فاز برئاسة بلدية اسطنبول وكان عضواً في حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان وقد خلع منها عام 2001 بسبب تصريح في ندوة حزبية مفتوحة ردد فيه أبياتاً لشاعر إسلامي وقومي كان يقول "منارات الجوامع ستكون حرابنا وقببها خوذنا وفناءاتها ثكناتنا" فحوكم بتهمة الحض على الكراهية الدينية، وصدر حكم بتجريده من منصب رئيس بلدية اسطنبول، وبالسجن 10 أشهر خرج بعدها ليتولى رئاسة "حزب العدالة والتنمية" الذي خلف حزب الرفاه وليصبح من بعد رئيساً للوزراء .
كان على الرئيس المنتخب أن يقطع مسافة الألف ميل للوصول إلى هذا المكان، فهو ينتمي إلى عائلة متواضعة الحال وكان عليه في صغره في ضاحية قاسم باشا الفقيرة أن يبيع الكعك والليموناضة لمساعدة والده على تغطية نفقات العائلة، كما تعوّد في بيئته أن يعاشر البلاطجة والمتدينين وهو يستخدم لغة ضاحيته الفقيرة عندما يخاطب الناس معطوفة على لغة القرآن التي اكتسبها في مدرسة تقليدية انتمى إليها ليصبح إماماً غير أنه لم يكمل طريق الأئمة وجذبته السياسة ليكون "بوتين التركي" على ما تروي صحف بلاده .
وليست في هذا الوصف مبالغة وسوء تقدير، فالرجل خرج من السجن وتبادل الأدوار مع الرئيس التركي عبدالله غول الذي من المنتظر أن يصبح رئيساً للوزراء بعد فوز أردوغان وربما يتولى منصباً رفيعاً إذا ما قرر أن يعدّل رئيسه الدستور كما وعد في حملته الانتخابية، وأن يوسع صلاحيات الرئيس على الطريقة الأمريكية ليصبح نظاماً رئاسياً مطلقاً أو ليصبح نصف رئاسي على الطريقة الفرنسية . والواضح أنه لا شيء يقف في طريقه . فإن تعرضت الصحافة لمشروعه "العثماني" يحمل على الصحفيين ويسجن أكثر من 200 منهم، كما تؤكد منظمة "مراسلون بلا حدود" وإن تعرض له حليفه السابق فتح الله غولن ونشر فضائح فساد تورط فيها مع ابنه بلال يبادر أردوغان بإقفال مواقع التواصل الاجتماعي والإمساك بالقضاء بيد من حديد وتطهير جهاز الشرطة عبر نقل الآلاف من أفرادها الموالين لغولن إلى مراكز هامشية أو فصل بعضهم من العمل . وعندما يتظاهر أكثر من مليوني شخص في ساحة تقسيم، العام الماضي لمدة 3 أسابيع يبادر بقمعهم بأساليب بوليسية واتهامهم بتنفيذ مؤامرة خارجية . وقد توقع كثيرون أن يطيح به ملف الفساد والقمع والطغيان الشخصي في أول انتخابات لكن الوقائع كذبت هذه المزاعم في مارس/آذار الماضي حيث فاز حزبه بالانتخابات المحلية وها هو يفوز بالانتخابات الرئاسية، ومن المنتظر ألا يغادر هذا المنصب حتى عام 2023 ليحتفل بمئوية الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك، وليعلن نهاية العلمانية، واستئناف المجد العثماني بصيغة حديثة . ومن المنتظر أن ينفذ حتى ذلك التاريخ مشاريع عملاقة، من بينها جسر ثالث على البوسفور ومطار ثالث وقناة مائية عملاقة شبيهة بقناة السويس ومسجد على تلة في مسقط رأسه يتسع لنحو30 ألف مصل وتعلوه ست منارات يمكن مشاهدتها من كل أنحاء المدينة، وذلك على غرار مسجد السليمانية الذي شيده سليمان القانوني وصار يصلي فيه السلاطين بعد تسلمهم الخلافة . وقد سار أردوغان على خطاهم عندما صلى في مسجد السليمانية بعد فوزه ليؤكد لمن يشك بعد أن مشروعه العثماني الحديث سيقوم على أنقاض جمهورية أتاتورك العلمانية التي ألغت الخلافة، وتبنت النظام العلماني المستوحى من التيار اليعاقبي الفرنسي .
مشروع أردوغان العثماني لا يعترضه عائق تركي مهم، ذلك أن حقبة حزب العدالة والتنمية قلبت الأوضاع التركية رأساً على عقب، ففي الاقتصاد زاد دخل الفرد ثلاث مرات، وصار الاقتصاد التركي يحتل المرتبة ال 15 في العالم، وقد وعد أردوغان بنقله إلى المرتبة العاشرة بعد أقل من عقد واحد واستطاع الحزب أن يقصي الجيش عن السياسة وأن يبدد محظورات تاريخية من بينها المسألتان الكردية والأرمنية، من دون تقديم حل لأي منها حتى الآن . لكن بأي عين يرى أردوغان العرب في مشروعه الجديد؟
الواضح عبر التاريخ أن المشروع العثماني كان يواجه تحديين قوميين الأول سلافي، والثاني عربي واليوم يمكن القول إن التحدي الأول لا يقلق الأتراك لأسباب عديدة من بينها دخول الغرب بقوة في مواجهة مع الاتحاد الروسي الذي يستند إلى السلاف على حدوده بين أشياء أخرى . أما التحدي الثاني فما عاد داهماً بعد انهيار العراق، والحرب التي ضربت سوريا برعاية وتخطيط أردوغاني لا يشك أحد بمجرياته، ناهيك عن الرهان التركي على التيار الإخواني في التصدي لمصر واستئناف دورها القائد في العالم العربي . وللعلم فإن أحداً لم يجرؤ على التدخل السافر في الشؤون الداخلية المصرية، كما فعل أردوغان منذ نشوء الجمهورية المصرية بزعامة جمال عبدالناصر .
ما من شك في أن بعض مؤلفي الربيع العربي راهنوا ويراهنون على دور تركي قائد في العالم العربي للموازنة مع الدور الإيراني، وربما ذهب البعض الآخر إلى حد الرهان على استئناف الخلافة والعودة إلى المشروع العثماني بصيغة جديدة، وبالتالي تنصيب أردوغان ملكاً على العرب . ولعل هذه التطلعات المضمرة حتى الآن تجد محفزاتها في الأجواء الطاردة الناجمة عن الخراب والفوضى في بلاد العرب واستدعاء دور تركي مركزي فيها .
والمروع في مثل هذه الرهانات أنها تهمل تجربة أكثر من أربعة قرون عثمانية انتقلت خلالها عواصم العرب الحضارية من مدن مشعة على العالم إلى خرائب ريفية تافهة مع انتهاء السيطرة العثمانية . لذا يجدر القول بلا تردد: لا نريد أردوغان ملكاً علينا، ولانريد غيره من الأجانب فنحن أمة جديرة بقيادة نفسها، واختيار رؤسائها وملوكها وقد غيرنا الكون قبل الأتراك ويمكننا أن نغيره ثانية بعدهم إذا نحن أردنا .

فيصل جلول

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"