أوروبا بين تصدير واستيراد الصراع العربي - “الإسرائيلي”

05:04 صباحا
قراءة 5 دقائق

كشف العدوان الإسرائيلي الذي استهدف، خلال أكثر من ثلاثة أسابيع بليلها ونهارها، سكان قطاع غزة وبيوتهم ومساجدهم ومدارسهم ومختلف مرافقهم، كشف نذالة الاتحاد الأوروبي والعديد من دوله البارزة. وعلى الرغم من أن الاتحاد المذكور وأهم دوله كان شريكاً ل إسرائيل في خنق وتجويع قطاع غزة منذ سنة 2006 فإن الكثيرين لم يكونوا ينتظرون أن يصل الأمر إلى تأييد وقح ل إسرائيل عبرت عنه الرئاسة التشيكية للاتحاد حين اعتبرت أن إسرائيل لا تمارس إلا دفاعاً مشروعاً عن النفس، أو أن يصل الأمر بدول أوروبية دوخت الدنيا بالخطب عن حقوق الإنسان، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إلى التحول إلى شياطين خرساء أمام الجرائم الإسرائيلية تتهرب من مجرد الموافقة على القيام بتحقيق موضوعي في إطار الأمم المتحدة، واستناداً إلى القانون الإنساني الدولي.

ومن جانبها حرصت معظم وسائل الإعلام الأوروبية، في مرحلة أولى، على تجاهل العدوان الإسرائيلي سالف الذكر، ثم عمدت إلى تهميشه، ثم اندفعت في تزييف وقلب حقائقه متحدثة عن الإرهاب الفلسطيني وعن ضرورة حماية إسرائيل من القذائف الحرفية للمقاومة الفلسطينية.

وسواء تعلق الأمر بالاتحاد الأوروبي وبدوله الرئيسية أو بمعظم وسائل الإعلام الأوروبية المرئية والمسموعة والمكتوبة، فإن القاسم المشترك بينها تمثل في تغييب أمرين جوهريين، يتعلق الأمر الأول بتغييب واقع الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ ستين سنة والمتصاعد عن طريق توسيع المستوطنات. وعندما يتم تغييب هذا الواقع تنقلب المفاهيم والأشياء، ويتحول المحتلون إلى ضحايا. ويتعلق الأمر الثاني بتغييب المشروعية الديمقراطية الفلسطينية التي اكتسبتها حركة حماس بفوزها في آخر انتخابات تشريعية فلسطينية. ولا يعكس هذا التغييب قناعة زائفة بالديمقراطية المتغنى بها فحسب، ولكنه يعكس كذلك تمييزاً عنصرياً في حق المواطنين الفلسطنيين الذين عبروا عن موقفهم في تلك الانتخابات.

و لكن صور المذابح التي تعرض لها سكان غزة بأطفالهم ونسائهم ورجالهم، والتدمير الجنوني الذي مسح الأحياء والمقار والمنازل ومخازن الغذاء والدواء، وجدت طريقها إلى تلفزيونات وصحف العالم رغم أنف المنع الإسرائيلي والتعتيم والتجاهل الأوروبيين، وحركت الجماهير العربية والإسلامية، وانتقل التحرك إلى معظم الدول الأوروبية، وساهم فيه إلى جانب العرب والمسلمين سياسيون ونقابيون وجمعويون ومواطنون أوروبيون عاديون.

وإذا كانت مظاهرات ومسيرات الاحتجاج قد عمت معظم الدول الأوروبية، فإنها تفاوتت من حيث أعداد المشاركين فيها، ومن حيث انتشارها على صعيد كل دولة أوروبية على حدة. وكسبت فرنسا قصب السبق، حيث شهدت عاصمتها باريس أضخم المظاهرات خارج المنطقتين العربية والإسلامية. وشهدت مدينتا ليون ومرسيليا مظاهرتين من حجم كبير وغير مألوف في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وبالإضافة إلى ذلك شهدت عشرات المدن الفرنسية في مختلف الجهات مظاهرات احتجاجية ضد العدوان الإسرائيلي وضد النذالة والنفاق الفرنسيين والأوروبيين.

وبفضل هذه التحركات ومثيلاتها التي جابت الشوارع الإسلامية والعربية، بدأت الوسائل الأوروبية والفرنسية المناهضة لحق الشعب الفلسطيني تراجع نفسها، وتفسح المجال، شيئاً فشيئاً للرأي الإنساني، والموقف العربي والفلسطيني من دون أن تتخلى، بين الحين والآخر، عن تزييف الحقائق، وترويج الأكاذيب السامة.

وعلى الرغم من أن الصهاينة ومناصريهم لم يدخروا جهداً في مناصرة العدوان الإسرائيلي وفي تسويد حركة المقاومة الفلسطينية، ووصل بهم الأمر إلى ترديد النشيد الوطني الإسرائيلي في إحدى التظاهرات التي دعا إليها وأطرها المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية لفرنسا، على الرغم من ذلك فإن حركتهم ظلت معزولة وضعيفة الأثر، وابتعدت عنها شخصيات يهودية بارزة في عالم الفكر والثقافة رفضت ارتكاب الجرائم باسمها. ولمواجهة هذه الوضعية التي تكاد تكون غير مسبوقة رفع الصهاينة وأنصارهم فزاعة معاداة السامية، وتعالى صراخهم ضد ما يزعمونه تصاعداً للخطب والممارسات اللاسامية.

وعلى الرغم من أن ظرفية الجرائم الإسرائيلية ضد أهالي غزة بمن فيهم النساء والأطفال، وتمجيد صهاينة فرنسا وأوروبا لهذه الجرائم، يؤديان إلى ردود فعل لا تميز أحياناً بين المجرمين وعامة اليهود، فإن قائمة الأعمال والألفاظ المصنفة في خانة معاداة السامية قد اتسعت بصورة مثيرة، ولم تعد تميز بين هذه الظاهرة ونقد وإدانة الجرائم الإسرائيلية. وهكذا يضع الصهاينة المذكورون ما يزعمونه شيطنة إسرائيل في تلك الخانة متجاهلين أن إسرائيل هي التي تشيطن نفسها بما ترتكبه من جرائم. وإلى جانب ذلك حاول أولئك الصهاينة البكاء على النصب التذكاري الذي كانوا قد أقاموه لاسحاق رابين في احدى حدائق مدينة ليون الفرنسية، واعتبروا بعض الخدوش التي تعرضت إليها شجرة الارز المغروسة إلى جانب النصب اعتداء على السامية. وقد تناسى هؤلاء، مرة أخرى، أن إسحاق رابين لم يغتله إرهابي عربي ولكن اغتاله صهيوني متطرف.

ويتطلع صهاينة فرنسا وأنصارهم، عن طريق استخدام فزاعة معاداة السامية ودعوة الدولة والمجتمع الفرنسيين إلى اعتبار القضية قضيتهم، إلى الخروج من العزلة الخانقة التي ضربوها على أنفسهم بعد تبنيهم للجرائم الإسرائيلية ضد سكان غزة. وعلى الرغم من أن هؤلاء سيواصلون العزف على هذه النغمة المتجاوزة، وسيعملون على اقتراف اعتداءات ضد اليهود، كما فعلوا في السابق، لترويج فزاعتهم، فإن مناهضي الجرائم الإسرائيلية مطالبون بضبط النفس والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يسهل على الصهاينة تأليب المجتمعات الأوروبية على العرب والمسلمين.

وإلى جانب فزاعة معاداة السامية رفع الصهاينة وأنصارهم شعار الامتناع عن استيراد صراع الشرق الأوسط إلى الساحة الفرنسية. ودعا المسؤولون الحكوميون الفرنسيون إلى نفس الأمر. والطريف في الموضوع أن مثل هذا الشعار لم يكن له مكان عندما كان وزن الأوروبيين والفرنسيين المنحدرين من أصول إسلامية وعربية هزيلاً وغير مؤثر. وحينئذ كان الصهاينة يتحكمون في الساحة الأوروبية عامة والفرنسية خاصة ويستخدمونها لدعم الاغتصاب والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية. والأطرف في الموضوع أن الصهاينة الذين يدعون إلى وقف الاستيراد لا يتورعون عن ممارسة استيراد فاضح للجرائم الإسرائيلية، وعن تبن كامل للمخططات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي، وعن دفاع مستميت عن الاحتلال والقمع الإسرائيليين.

أما دعوة المسؤولين الرسميين إلى نفس الأمر فإنها غير ذات مصداقية ولا تستند إلى أسس موضوعية، لأن فرنسا، إلى جانب عدد من الدول الأوروبية، وخاصة بريطانيا ثم ألمانيا، ساهمت بصورة حاسمة في إقامة الدولة العبرية، وتشريد الشعب الفلسطيني، ولا يمكنها اليوم أن تتنصل من تلك المسؤولية، وتعتبر نفسها غير معنية بالصراع العربي الإسرائيلي الذي هي جزء منه.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن على فرنسا أن تنتبه إلى أن قسماً لا يستهان به من مواطنيها المنحدرين من الهجرة العربية والمسلمة لا يناصرون الفلسطينيين انطلاقاً من القيم الإنسانية والدينية ومن الأصول القومية فحسب، بل يتماهون معهم انطلاقاً مما يعانونه في ضواحي المدن الكبرى من تمييز وانعزال وقبضة أمنية ثقيلة تتشابه أحياناً مع معاناة الفلسطينيين.

وقبل أن تدعو فرنسا ومثيلاتها إلى الامتناع عن استيراد صراع الشرق الأوسط إلى معتركها، يتعين عليها أولاً أن تتخذ موقفاً ايجابياً من الصراع العربي الإسرائيلي بناء على قرارات الأمم المتحدة وعلى القانون الدولي، وثانياً أن تعتمد سياسات حقيقية تقنع مواطنيها من أصول عربية ومسلمة بتبنيها الفعلي لهم وباحتضانها الصادق لهم، وثالثاً بالتزام أنصار إسرائيل باحترام انتمائهم إلى فرنسا وإلى غيرها من الدول الأوروبية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"