غينيا الجديدة في ظل الانقلاب

05:13 صباحا
قراءة 5 دقائق

استقطبت غينيا اهتمام مراقبي الشؤون الإفريقية خلال الأسبوع الأخير من العام المنصرم، ليس بحدث وفاة الرئيس لانياناكوتي في الثاني والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول، بل بحدث استيلاء ضابط صغير على السلطة العليا في تلك البلاد. ويتعلق الأمر بالنقيب موسى داديس كامارا. وقبل التساؤل عن طبيعة الانقلاب وعلاقته بالمؤسسات الشرعية القائمة وأجندته الأساسية، جرى التساؤل عن الوضعية الغينية الخاصة التي تسمح لنقيب بالوصول إلى السلطة العليا وبإعلان نفسه رئيساً للجمهورية في حضرة أكثر من عشرين جنرالاً. ويتعين البحث عن جواب لهذا التساؤل الأخير في وضعية الجيش الغيني من جهة، وفي الوضعية التي آلت إليها البلاد من جهة ثانية. والمعروف أن تأسيس الجيش الغيني سنة ،1959 أي السنة الثانية من بعد حصول البلاد على استقلالها عن فرنسا، لايستند إلى أية نواة ثورية تبلورت ونضجت في إطار الكفاح ضد المستعمر كما حصل في عدة تجارب وطنية إفريقية، بل استند إلى العسكريين الغينيين الذين خدموا في صفوف القوات الفرنسية، وخضعوا بعد ذلك، مع بقية الملتحقين الآخرين بهذا الجيش، إلى تأطير أيديولوجي وطني وتقدمي بمنظار ستينات القرن الماضي التي كان خلالها الرئيس الغيني الأول الراحل أحمد سيكوتوري أحد أقطاب الجناح الوطني التقدمي في إفريقيا إلى جانب آخرين مثل الراحلين كوامي نكروما رئيس غانا، وجمال عبدالناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة يومئذ. وبدأ الجيش الغيني يفقد بعض انسجامه وتماسكه بعد محاولة انقلابية فاشلة سنة 1970 بادر على إثرها الرئيس سيكوتوري بإنشاء الميليشيا الوطنية لإحصاء حركات وسكنات هذا الجيش، وتدهور الوضع أكثر في السنة الثانية من حكم الرئيس لانساناكونتي، حين قام هذا الأخير سنة ،1985 اثر محاولة انقلابية ضد حكمه، بفصل عدد مهم من الضباط، ودمج الميليشيا الوطنية في الجيش، ويسر بذلك نوعا من الهيمنة لبني اثنيته من السوسو على الصفوف العليا من هذا الجيش. وخلال هذه الفترة بدأت الانقسامات العرقية تفرض نفسها على المؤسسة العسكرية الغينية، وبدأ شرخ أفقي يتسع بين قاعدة الجنود وضباط الصف من جهة وبين كبار الضباط من جهة أخرى. وكانت سنة 1996 سنة متميزة في تاريخ تلك المؤسسة العسكرية، بما شهدته من تمرد واسع للجنود وضباط الصف ضد القيادة العسكرية وضد الحكومة اللتين لم توليا الاهتمام الكافي لظروف عيشهم، ولم تعتنيا إلا بالحياة المترفة لكبار الضباط. ولقد استفحل أمر تذمر القاعدة العسكرية ضد الحكومة وقيادة الجيش، وأصبحت تتناوب مع المدنيين في الاحتجاج، وهكذا فما أن هدأت المظاهرات الدامية التي قادتها النقابات في الشهرين الأولين من سنة 2007 حتى تلتها تمردات الجنود وضباط الصف. وفي الوقت الذي لم يتحرك فيه الشارع ضد إقدام الرئيس لانساناكونتي على إقالة حكومة لانساناكوياتي التي تشكلت بتوافق مع الحركة النقابية، نزل الجنود وضباط الصف إلى الشارع في أواخر مايو/ ايار وأوائل يونيو/ حزيران المنصرمين مطالبين بتسلم أجورهم وتعويضاتهم الموقوفة منذ تسعة أشهر، ووصل بهم الأمر إلى المطالبة بإحالة القيادة العسكرية على التقاعد. وما يستحق الإشارة أن النقيب موسى داديس لم يلمع فقط خلال أدائه لمهامه وتحديه لكبار القادة، وبفضل علاقاته الجيدة مع الجنود، بل لمع خلال استعانة المسؤولين به للتدخل في مناقشة المتمردين وإقناعهم بالعودة إلى ثكناتهم على أساس تأييد مطالبهم المشروعة، والدفاع عنها، وبعد تحقيق مطلب إقالة وزير الدفاع. ولم تتدهور أوضاع الجيش الغيني وحدها بل تدهورت معها، وفاقتها في التدهور أوضاع البلاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وازدادت هذه الأوضاع تفاقما في السنين الأخيرة التي ساءت فيها الحالة الصحية للرئيس لانساناكونتي، وأفسحت المجال واسعاً أمام بطانته من كبار الموظفين ورجال المال لينهبوا المال العام على محدوديته، وليحولوا حياة المواطنين إلى معاناة قاسية أصبح معها نصف سكان البلاد يعيشون تحت عتبة الفقر. ولم تعرف غينيا في عهد الرئيس كونتي إلا فترة قصيرة من الانفتاح السياسي الذي كاد يعم إفريقيا في نهاية ثمانينات القرن الماضي بضغط من الدول الغربية بعد كسبها للمعركة ضد ما كان يسمى الاتحاد السوفييتي. ولكن النظام الغيني سرعان ما عاد إلى طبيعته الاستبدادية، وهمش المعارضة، وفقد بعد ذلك الدعم السياسي الخارجي، ووصل به الأمر إلى حد مقاطعة المؤسسات المالية الدولية له وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي. ووجدت غالبية المواطنين نفسها مجبرة على النزول إلى الشارع في مظاهرات حاشدة، كانت أبرزها مظاهرات الشهرين الأولين من سنة 2007 التي قادتها النقابات عوض الأحزاب السياسية التي ابتعدت عن الصدارة خوفا من أن يشكل الطابع الاثني الغالب على معظم التشكيلات السياسية فرصة يهتبلها الحكم القائم لدمغ الحركة الاحتجاجية بطابع عرقي معاد لإثنيته. وعلى الرغم من آلة القمع التي قادها نجل الرئيس وأودت بحياة 200 مواطن، فإن ذلك لم ينجح في ايقاف المتظاهرين الذين لم يعودوا يخافون الموت بعد أن أصبحت حياتهم أشبه بالموت.

وفي ظل هذه الأوضاع يبدو استيلاء النقيب موسى داديس كامارا والمجلس الوطني للديمقراطية والتنمية على السلطة وقطعه الطريق، في آن واحد، على بطانة الرئيس الراحل التي خربت البلاد، وعلى كبار ضباط الجيش الذين كانوا شركاء في التخريب، والتزامه بتنفيذ أجندة محددة تقوم على تقويم أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وعلى إعداد متطلبات الانتخابات التشريعية والرئاسية وتنظيم هذه الانتخابات والعودة بعد ذلك إلى الثكنات، نوعاً من الأمل بالنسبة لغينيا التي طالت معاناتها، وتعثرت كثيراً في تحقيق التنمية والاستقرار أسوة بجيرانها واعتماداً على ما يتوافر من مؤهلات اقتصادية منجمية وزراعية كبيرة.

وبالنظر إلى أوضاع غينيا شديدة التدهور فإن حركة النقيب موسى داديس كامارا تمثل أكثر مما مثله الرئيس الزاهد سوار الذهب بالنسبة للسودان، وأكثر مما مثله العقيد علي ولد محمد فال في موريتانيا. ويبدو أن الحركة المذكورة تستحق التأييد الواضح الذي عبرت عنه المعارضة الغينية بتنظيماتها وشخصياتها البارزة. وبفضل هذا التأييد، وبفضل الجدية والحزم اللذين أبدتهما هذه الحركة، فإن مختلف المسؤولين السابقين في الدولة والحكومة والجيش قد سلموا بالأمر الواقع. وقد تعزز حزم وجدية قادة غينيا الجدد من خلال الحكومة التي شكلوا معظمها من المدنيين، ومن خلال إحالة حوالي عشرين جنرالاً على التقاعد، ومن خلال العزم القوي على القيام بتدقيق للحسابات لإنجاز تشخيص سليم لأوضاع البلاد يحدد مكامن القوة ونقط الضعف ويسمح بالتقويم. وسواء تعلق الأمر بالقوى الوطنية الغينية أو بالقوى الدولية فإن موقفها المتفهم أو المؤيد للمجلس الوطني للديمقراطية والتنمية ينبغي أن يظل مشروطاً بتنفيذ هذا الأخير لما التزم به، وبأخذه لآراء الفرقاء الوطنيين بعين الاعتبار.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"