نقمة بلجيكية في طيها نعمة

01:50 صباحا
قراءة 5 دقائق

عجزت الطبقة السياسية في بلجيكا طوال الثمانية عشر شهراً، التي مرت على الانتخابات التشريعية الفيدرالية، عن تشكيل حكومة اتحادية منسجمة ومستقرة تعكس النتائج التي أفرزتها تلك الانتخابات. واضطر إي لوتيرم زعيم الحزب السياسي الذي احتل المركز الأول في تلك الانتخابات، وآل إليه أمر تشكيل الحكومة الاتحادية إلى تقديم استقالته، المرة تلو الأخرى، مسجلاً بذلك رقماً قياسياً متمثلاً في أربع استقالات خلال أقل من عام ونصف العام.

والمثير في التجربة البلجيكية أن التعايش الإيجابي الطويل نسبياً بين مكونيها الرئيسيين، المكون الفلاماني والمكون الوالوني، لم يؤد إلى تناسي وتجاوز سلبيات الماضي التي تمثلت على الخصوص في هيمنة طويلة للمكون الثاني على صعيد اللغة والسياسة والاقتصاد، وفي تمزق شديد خلال الحرب العالمية الثانية التي مال خلالها الفلامانيون نحو المعسكر النازي كرد فعل ضد الوالونيين الفرانكفونيين الذين وقفوا في صف الحلفاء.

وعلى الرغم من أن الفرقاء البلجيكيين توافقوا بعد الحرب العالمية الثانية على اعتماد تنظيم خاص لبلادهم يقوم من جهة أولى على تكريس انقسامها إلى إقليمين بسلطات واسعة لكل إقليم، ويقوم من جهة ثانية على تقسيمها إلى ثلاث مناطق لغوية: منطقة صغيرة في الشرق تسودها اللغة الألمانية إلى جانب المنطقتين الفرانكفونية في الجنوب والفلامانية (الهولندية) في الشمال، إلى جانب العاصمة بروكسيل مزدوجة اللغة، على الرغم من ذلك، فإن الفلامانيين الذين تعززت قوتهم الانتخابية والسياسية بفضل تعدادهم المرتفع ونظام النسبية الانتخابية الذي يكرس هذه القوة، وتعززت كذلك قوتهم الاقتصادية بناء على الأنشطة الصناعية والاقتصادية الجديدة وعلى حساب المنطقة الوالونية التي كانت تهيمن على الصعيد الاقتصادي اعتماداً على القطاعات الكلاسيكية المتعلقة بالمناجم والصلب، التي أصبحت متجاوزة منذ عقود، أصبحوا يطالبون بالمزيد من المكتسبات، ويتطلعون إلى صلاحيات أوسع لإقليمهم ولمنطقتهم اللغوية، وأصبحت مواقف بعض القوى الفلامانية تتخذ أشكالاً تكاد تكون انتقامية من المنطقة الوالونية، وتتجه إلى مزيد من تقليص نفوذ هذه الأخيرة والحد من انتشار اللغة الفرنسية. وعلاوة على ذلك، فقد شهد الإقليم الفلاماني في السنوات الأخيرة تنامياً مثيراً للقوى المحافظة والمتطرفة التي لم تعد تخفي ملامحها النازية، وتطالب علنا بالاستقلال التام للإقليم الفلاماني وبإنهاء حياة المملكة البلجيكية الموحدة.

وجاءت الانتخابات التشريعية الفيدرالية التي جرت في العاشر من يونيو/ حزيران من سنة 2007 في غير مصلحة الوحدة البلجيكية، حيث خسر فيها الاشتراكيون مقاعد مهمة، وفقدوا المركز الأول. ولم يقف أمر هذه الانتخابات عند احتلال المسيحيين الديمقراطيين الفلامانيين للمركز الأول، بل تعقد أمر الوحدة بالتقدم الذي سجله اليمين المتطرف الفلاماني الذي أصبح يكبل الديمقراطيين المسيحيين، ويزايد عليهم، ويفرض عليهم مواقف متشددة إزاء موضوع الوحدة مقابل التحالف معهم ودعمهم في البرلمان.

وفي هذا السياق أضاف إي لوتيرم إلى تشدده الشخصي والحزبي تشدد المتحالفين معه والمزايدين عليه، وسعى إلى فرض شروط مغالية على الأحزاب الوالونية التي يتوقف عليها بناء أغلبية برلمانية وتشكيل حكومة اتحادية. ونظراً إلى التشدد المشار إليه في موضوع توسيع الصلاحيات الإقليمية وتقسيم إحدى الدوائر مزدوجة اللغة، لم يفلح لوتيرم في إجبار شركائه المنتظرين على التسليم بمطالبه، واضطر إلى الاستقالة والاعتذار عن تشكيل الحكومة، ثم اضطر بعد ذلك إلى تقديم استقالة الحكومة التي كوّنها وترأسها مرتين، قبل أن يضطر مرة رابعة إلى الاستقالة في التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الأول المنصرم.

ولكن الاستقالة الأخيرة تختلف كثيراً عن سابقاتها، ويمكن أن تفتح باب الأمل أمام إمكانية حلحلة الأزمة البلجيكية وإعادة الطبقة السياسية أو جزء وازن فيها إلى الرشد.

وأتت استقالة لوتيرم الرابعة في ظرفية خاصة عنوانها الكبير الأزمة البنكية والمالية والاقتصادية العالمية.

ولم تتزامن هذه الأزمة، على الصعيد البلجيكي، فقط بالركود الاقتصادي، وتنامي المخاوف الاجتماعية من انعكاس ذلك على الشغل والقوة الشرائية، بل تزامنت كذلك بهزة كبرى زلزلت مؤسسة فورتيس البلجيكية الرائدة في عالم البنوك والتأمينات. ومن أجل تجنب إفلاس هذه المؤسسة التي تعد مفخرة لبلجيكا، اتخذت حكومة لوتيرم موقفاً يؤيد اندماج المؤسسة المذكورة مع المؤسسة المالية الفرنسية العملاقة ب، ب. إن باري با بعد شراء هذه الأخيرة لمعظم أسهم الأولى.

وبالإضافة إلى هذا أو ذاك، تزامنت استقالة الوزير الأول البلجيكي السابق، مع تدهور صورة السياسيين لدى الجمهور البلجيكي الواسع بسبب الأزمة التي طالت أكثر من اللازم، وبسبب الأساليب المتدنية التي يستعملها السياسيون في النيل من بعضهم.

وفي الوقت الذي كان فيه لوتيرم يتطلع إلى إعادة الاعتبار، إلى السياسيين وإلى العمل السياسي، وجه، من حيث لا يحتسب، ضربة قاسية إلى نفسه وإلى حزبه وإلى الطبقة السياسية، عندما ضبطت حكومته متلبسة بالضغط على القضاء من أجل إصدار حكم مؤيد لموقف الحكومة المتعلق ببيع أسهم فورتيس إلى المؤسسة المالية الفرنسية سالفة الذكر. وأقر رئيس محكمة النقض البلجيكية، في تقرير في الموضوع، وجود عدد لا يستهان به من المؤشرات المتشابهة التي تدل على ممارسة ضغوط حكومية على القضاء لحمله على إصدار حكم يؤيد بيع مؤسسة البنك والتأمين البلجيكية الأولى.

وفي ضوء ما سبق من إشارات، يمكن تلمس بعض عناصر النعمة في طيات نقمة الأزمة البلجيكية الخانقة. ومن بين هذه العناصر يمكن أولاً أن نذكر الهزة القوية التي ضربت الاتجاه المتشدد في الأزمة البلجيكية ممثلاً على الخصوص في لوتيرم وحزبه وحلفائه الفلامانيين. ولا تتردد أوساط سياسية وصحافية بلجيكية واسعة في القول إن الاستقالة الرابعة للوتيرم كانت ضربة قاضية على زعامته السياسية لأنها لم تأت كسابقاتها لإحراج وتعجيز المخالفين بل أتت أولاً لإدانة التدخل في شؤون القضاء، وأتت ثانياً لتؤكد الفشل الذريع للوتيرم في تحقيق أي من أهدافه.. فقد ترك المسؤولية الحكومية دون أن يفلح في إعداد الميزانية الفيدرالية، أو ينجح في إقرار مخطط لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية. أما هدفه المتعلق بإعادة المصداقية إلى الطبقة السياسية فقد تطايرت أشلاؤه بعد انكشاف الضغوط الحكومية التي مورست على القضاء.

ومن غير المستبعد أن تؤدي هذه الهزة التي لن توفر الحزب المسيحي الديمقراطي وحلفاءه الفلامانيين إلى تقليص نفوذ هؤلاء والحد من غلوائهم وحملهم على الاعتدال.

ومن غير المستبعد أن يسهم التذمر الشعبي الواسع والمتنامي ضد الطبقة السياسية في دفع هذه الأخيرة إلى قدر من مراجعة النفس في اتجاه إعطاء الأولوية للقضايا العامة، والسعي إلى انقاذ الوحدة البلجيكية. وبالإضافة إلى هذا وذاك، فإن ظروف الأزمة المالية والاقتصادية العالمية والتحديات التي تطرحها من شأنها أولاً أن تحد من جموح الفلامانيين، وتقلل من تبجحهم على مواطنيهم الوالونيين بنجاحهم الاقتصادي، ومن شأنها ثانياً أن تعزز الوحدة والروح الجماعية لمجابهة تلك التحديات.

ولذلك، يمكن، هذه المرة، النظر ببعض التفاؤل، إلى تكليف رئيس البرلمان بتشكيل الحكومة البلجيكية الجديدة، لأن استمرار الأزمة أصبح يهدد نفوذ وشعبية القوى السياسية التي تتسبب بها، ولأن هذه القوى مقتنعة بأن تنظيم انتخابات تشريعية فيدرالية مبكرة سيعصف بها ويأتي بمشهد سياسي غير منتظر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"