متى يصالح الاتحاد الأوروبي مواطنيه المسلمين؟

01:32 صباحا
قراءة 5 دقائق

بعد الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في حق سكان قطاع غزة، في نهاية العام المنصرم وبداية العام الجاري والمظاهرات التي جرت في العديد من دول الاتحاد الأوروبي الأساسية، وشاركت فيها بصورة كثيفة الجاليات العربية والإسلامية، أولى المسؤولون السياسيون والأمنيون في الاتحاد المذكور مزيداً من الانتباه والاهتمام بما يعتبرونه تنامياً للتشدد وسط الشبان المسلمين في العديد من دول هذا الاتحاد، خصوصاً منها فرنسا وبريطانيا وألمانيا. ونسبت يومية لوموند الفرنسية الصادرة في الثاني عشر من الشهر الجاري إلى منسق سياسة مناهضة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي دعوة إلى التمسك بالاستراتيجية المعتمدة سنة 2005 في هذا المجال من جهة، وإلى تعميق هذه الاستراتيجية من جهة ثانية. وأشارت اليومية نفسها إلى عدد من الأبحاث والتحقيقات التي أنجزها خبراء ينتمون إلى مراكز دراسات مختلفة، وتحدثت بعض هذه الأبحاث عن المواقع والمجالات التي يجري فيها نشر أفكار التشدد، وتعبئة وتجنيد الشبان من أجل الجهاد، وحددتها على الخصوص في السجون، والمؤسسات التعليمية، وشبكة الانترنيت. وصاغت عدداً من التوصيات منها ما يتعلق بإعداد توجيه موحد للعاملين في المؤسسات السجنية الأوروبية، ومنها ما يرتبط بتشديد الرقابة على المواقع الالكترونية. وبموازاة مثل هاتين التوصيتين اللتين تحملان طابعاً بوليسياً ضيقاً، صاغ أحد مراكز الدراسات في العاصمة البريطانية توصيات أوسع أفقاً نسبياً حينما دعا إلى إشراك منظمات المجمتع المدني الإسلامية في إعداد مخطط عمل بصورة استعجالية. وإلى جانب هذه الالتفاتة المتأخرة لإشراك المعنيين، دعا مركز آخر الدول الأوروبية إلى تمويل تدريس اللغات الأصلية للشبان المسلمين. وعلى الرغم من أن هذه الالتفاتة تأتي في صيغة هجوم قوي على المراكز الإسلامية التي تتهم ب احتكار تدريس تلك اللغات، وأن المراكز المذكورة حاولت فقط الحد من الفراغ العمومي في هذا المجال، وهو فراغ لا يعبّر فقط عن إهمال الدول الأوروبية ونقص اهتمامها بتدريس اللغات الأصلية لأبنائها المسلمين، بل يعبر عن رفض تلك اللغات ومحاربتها.

على الرغم من ذلك، فإن الإقرار بأهمية تدريس اللغات الأصلية وبضرورة الإنفاق العمومي على هذا التدريس يمثل خطوة مهمة ينبغي تثمينها والمطالبة بالعمل الجاد على تنفيذها. وفي سياق التوصيات الإيجابية تجدر الإشارة إلى أهمية الاهتمام بالمؤسسات التعليمية والقيام بعمل جاد ومتواصل يستهدف توعية وتنوير التلاميذ والطلاب على قاعدة مفاهيم الهوية والمواطنة والتعدد الثقافي. ويعتمد على تكوين متقدم للمدرسين في هذا المجال.

وصاغ أحد مراكز البحث الفرنسية توصية على قدر كبير من الأهمية حين دعا إلى التوقف عن تقديم الإسلام بصور نزاعية، وإلى العمل، بدلاً من ذلك، على تشجيع ثقافة جماهيرية أوروبية للإسلام في اتجاه الشبان المنحدرين من الهجرة. وعلى الرغم من أن أبحاثاً تشير إلى أن العديد من المسلمين المتشددين الذين استجوبتهم في إطار الدراسة، يربطون بين مواقفهم المتشددة وجمود الدول الغربية تجاه الصراع في الشرق الأوسط، فإن تلك الأبحاث لا تقيم الحد الأدنى من الاعتبار لهذا الأمر، وتكتفي بتوصية مائعة تشير إلى أنه قد يكون من الملائم القيام بدراسة متنبهة للفكرة، التي تفيد بأن حلاً للصراع المذكور قد يكون له الأثر القوي المضاد للتشدد في أوروبا. ويتبين من الإشارات سالفة الذكر أن المسؤولين السياسيين والأمنيين في الاتحاد الأوروبي لا يقفون عند اختزال المشكلة من جهة في ما يصفونه بالمجموعات الصغيرة المتشددة، وعند اعتبار هذا الأمر، رغم اختزاله كمصدر خطر جدي على دول الاتحاد، بل يتجاهلون العديد من أسبابه الأساسية، ويتهربون من اعتماد الحلول والعلاجات الحقيقية. وهكذا يصر المسؤولون المذكورون على أن المشكلة تنحصر في تنامي المجموعات الصغيرة المذكورة، متناسين أن المشكلة أكبر من ذلك بكثير كما بينت ذلك المظاهرات والاحتجاجات الواسعة التي شهدتها أوروبا في بداية العام الجاري، ليس ضد الجرائم الإسرائيلية في غزة فقط، بل ضد المواقف الأوروبية التي أيدت، وبررت، وسكتت عن تلك الجرائم. ولقد شاركت في تلك المظاهرات والاحتجاجات جماهير غفيرة من مواطني دول الاتحاد المنحدرين من البلاد العربية والإسلامية، إلى جانب المواطنين الأصليين لدول الاتحاد المذكور الذين رأوا بأم أعينهم كيف تحول ضحايا المحرقة إلى منفذين لمحرقة جديدة ضد الفلسطينيين الذين لم يكن لهم أي ذنب في المحرقة القديمة. وإذا لم يتقدم مسؤولو الاتحاد الأوروبي في تجاوز النفاق الصارخ المتمثل في التلاعب بالإسلام والمسلمين حسب الأهواء والمصالح الضيقة عن طريق الاعلاء من شأنهم تارة لاستخدامهم ضد السوفييت سابقاً وضد الروس حالياً، وعن طريق الحط من قدرهم واعتبارهم خطراً جهنمياً عند ما يطالبون بحقوقهم الأولية أو يتجرأون على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، إذا لم يتقدم مسؤولو الاتحاد في تجاوز هذه السياسة المدمرة، فإن نجاحهم في حفظ الاستقرار والتماسك والتفاعل الايجابي لمجتمعاتهم سيبقى بعيد المنال، ويمثل الانحياز السافر للعديد من الدول الأوروبية ليس ل إسرائيل وجرائمها فقط، بل كذلك لجزء من مواطنيها اليهود القلائل ضد مواطنيها المسلمين الكثيرين.

لقد شهدت الفترة الأخيرة أشكالاً لا تصدق من هذا الانحياز الأخير، حيث تشددت العقوبات السجنية ضد المسلمين الذين يشاركون في النزاعات الجارية في العراق أو أفغانستان. وفي مقابل ذلك لا يجد عدد من اليهود الفرنسيين مثلاً أي حرج حين يتطوعون لخدمة الجيش الإسرائيلي ويشاركون في أنشطته العسكرية ثم يعودون إلى الوطن الفرنسي مفتخرين بإنجازاتهم. وتحدثت وسائل الإعلام كثيراً في الأيام الأخيرة عن الحملة العلنية التي شهدتها مدينة ستراسبورغ الفرنسية لصالح التطوع في الجيش الإسرائيلي. وبالإضافة إلى هذا وذاك بادر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى الوقوف عسكرياً إلى جانب إسرائيل بإرسال فرقاطة عسكرية إلى ساحل غزة لمنع تزود المقاومة الفلسطينية بالسلاح، بعد أن طالبته شخصيات سياسية وحقوقية وفكرية بإرسال سفينة مستشفى إلى ذلك الساحل للمشاركة في إغاثة ومعالجة جرحى غزة. وليس مطلوباً من الاتحاد الأوروبي أكثر من الالتزام بحد أدنى مما يعتبرها قيمه المتعلقة بحرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، وبمناهضة التمييز العنصري والديني، وباحترام القانون الدولي الإنساني واحترام الشرعية الدولية. وباعتماد هذه القيم وممارستها على أرض الواقع يمكن للاتحاد الأوروبي أن يساهم في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، ويقدم دعماً كبيراً للسلام العالمي، ويدعم الاستقرار والتماسك داخل دوله، ويكسب ولاء وحب مواطنيه المسلمين، ويعزز دورهم في خدمة مصالحه المشروعة. وإذا كانت مثل هذه الدعوة أقرب إلى الحلم اليوم، فإن ما يعزز هذا الحلم هو التقدم المتواصل، رغم العقبات والردات، لتلك القيم، والتحسن المستمر، الكمي والنوعي، لدور الإسلام والمسلمين في أوروبا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"