أوروبا بين فكي كماشة

04:27 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

يبدو المشهد الدولي وكأن حرباً باردة تعود بين روسيا والولايات المتحدة، ليس كما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن في شكل مختلف تحلّ فيه الاستراتيجيا محل الآيديولوجيا والاستقطاب «الناعم» محل الاستقطاب «الحاد». كانت اللعبة شبه صفرية بين القوتين العظميين خلال الحرب الباردة، حيث كانت كل قوة تتزعم معسكراً من الدول على مستوى العالم، وكان ثمة حروب بالوكالة تبعد شبح الحرب النووية. أما اليوم فقد أضحت روسيا في قلب اقتصاد السوق، وقد تلتقي مصالحها الاقتصادية و/أو السياسية مع المصالح الأمريكية هنا وتتعارض هناك، ما يعني أن اللعبة لم تعد صفرية، والتقارب ممكن في غير ملف وأزمة.
هناك إعادة توزيع لمراكز القوى بين الولايات المتحدة وروسيا ليس على مستوى العالم أجمع، كما كانت عليه الأمور في القرن المنصرم، ولكن على مستويات إقليمية محددة. للولايات المتحدة حلفاء، وروسيا من جهتها تسعى لاستمالة دول والتقارب مع دول أخرى، بغية موازنة النفوذ الأمريكي.
من ناحيتها أوروبا تتقدّم على الرغم من العصي الموضوعة في عجلاتها بفعل صعود اليمين المتطرف المناهض للاتحاد الأوروبي والعولمة والانفتاح، في العديد من دولها. والأمريكيون الذين يخشون فقدان هيمنتهم على العالم تزعجهم المنافسة الأوروبية السياسية والتجارية لهم. وقد أعلن ترامب الحرب التجارية على الاتحاد الأوروبي، في 28 يونيو/حزيران الماضي، واصفاً أوروبا ب«العدو» وروسيا ب«المنافس». وبعد أن أعلن على الملأ تأييده للبريكست وحثّه لدول أوروبا الأخرى بأن تحذو حذو بريطانيا، فإنه يركز على إضعاف المحور الفرنسي - الألماني الذي يقوده ماكرون وميركل. فمن المعروف أن الاتحاد الأوروبي قام في الأصل على عجلتين اقتصادية ألمانية وسياسية فرنسية، وهذان البلدان يشكلان النواة الصلبة للاتحاد. وقد وجّه ترامب انتقادات علنية صريحة لميركل الذي اعتبر أنها رهينة موسكو، وتدعم اقتصاد روسيا بمليارات الدولارات، جراء شرائها للغاز الروسي، وندد بالعجز التجاري الأمريكي حيال ألمانيا. كذلك فبعد أن أضحى ماكرون رجل أوروبا القوي بسبب الضعف الانتخابي الذي أصاب ميركل جراء سياستها حيال الهجرة واللاجئين، فقد سدد ترامب سهامه ضد الرئيس الفرنسي رغم محاولات هذا الأخير الدؤوبة للتقارب مع واشنطن ومعه شخصياً. وفي المحصلة فضّل ترامب التعامل مع رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جنكر الذي دعاه إلى البيت الأبيض في نهاية يونيو/حزيران الماضي، بغية التوصل إلى هدنة تجارية يجري خلالها التباحث حول التبادل الحر بين ضفتي الأطلسي، وإعادة النظر بالمعاهدة المنشئة للمنظمة العالمية للتجارة.
استراتيجية ترامب باتت واضحة وأهدافه معروفة، على الرغم من أنه يريد أن يكون عصياً على التوقّع. إنه يريد إضعاف أوروبا بشكل عام عبر إضعاف زعمائها الأقوياء، مثل ميركل وماكرون والتقرّب من بوتين والتشجيع على انتشار البريكست الذي ترفع لواءه الأحزاب الأوروبية الشعبوية.
لكن استراتيجية بوتين حيال الاتحاد الأوروبي تبقى خفيّة غير واضحة. والمصالح المشتركة كثيرة رغم الملفات الخلافية، مثل الحرب الأوكرانية، وضم شبه جزيرة القرم، والحرب السورية، ومحاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق سكريبال في المملكة المتحدة وغيرها. وتتهم موسكو الأوروبيين بالتبعية حيال واشنطن، لاسيما من خلال حلف الناتو الذي تمدد ليصل إلى الحدود الروسية نفسها، وهذا ما برر، من وجهة نظر بوتين، ضم القرم والموقف المتشدد حيال انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الأطلسي، والذي باتت موسكو تعتبره خطاً أحمر.
من جهتهم يصف الأوروبيون بوتين «بالصديق الذي لا يريد لنا الخير»، وهم يخشون القوة العظمى الروسية والجيش الأحمر، ولا تزال هواجسهم الأمنية على حالها تقريباً منذ الحرب الباردة، الأمر الذي يدفعهم للتمسك بحلف الأطلسي وواشنطن، على الرغم من سلوك ترامب غير الودي حيالهم. وهناك عشر دول على الأقل في أوروبا الشرقية والوسطى تولي الأولوية لتحالفها مع واشنطن وانتمائها للناتو على انتمائها الأوروبي، وذلك خوفاً من روسيا التي لطالما شكّلت تهديداً عسكرياً لها في التاريخين البعيد والقريب.
على صعيد آخر، فإن بوتين عمل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ضد المرشحة هيلاري كلينتون، لأنها تمثّل الخط الأطلسي، وأيد ترامب المتسرع والعصي على التنبؤ، لأنه يمثّل فرصة لإضعاف العلاقة الأمريكية - الأوروبية وحلف الأطلسي. لذلك تدخّلت موسكو في هذه الانتخابات، وقدّمت مساهمتها في فوز ترامب من دون أن يعني ذلك بأنها كانت وراء هذا الفوز.
حاول الروس فعل الأمر نفسه مع ماكرون الذي يرون فيه معارضاً شرساً لسياستهم السورية، ومؤيداً لإبقاء العقوبات ضدهم، ووقفوا خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية إلى جانب فرانسوا فيّون الذي وعد بالقطيعة مع الخط الدبلوماسي التقليدي حيال روسيا، حتى أنهم قدّموا مساهمات مالية لحملته الانتخابية عبر أحد مصارفهم في باريس، وجنّدوا حملات نشطة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ضد المرشح ماكرون.
ويبدو تأييد بوتين للأحزاب الشعبوية الأوروبية واضحاً، وهي أحزاب تناهض الاتحاد الأوروبي والعولمة، وبذلك يلتقي بوتين مع ترامب ضد هذا الاتحاد الذي يبدو اليوم وكأنه يقع بين سندان موسكو ومطرقة واشنطن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"