استفتاء اليونان والمصير المجهول

02:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. جاسم المناعي 

يتقرر اليوم الأحد 5 يوليو/ تموز 2015، من خلال الاستفتاء مصير اليونان في المجموعة الأوروبية. وفي الواقع فإن البداية في مأساة اليونان الحالية كانت مع الوعود التي قطعها الحزب الحاكم على نفسه، وهو في طريقه إلى تولي السلطة، حيث أعطى الناخبين الانطباع بأنه سوف يحررهم من برامج الإصلاحات المطلوبة من الدائنين، بل ذهب إلى أبعد من ذالك بأنه سوف يحصل لهم على إعفاءات مهمة من ديون اليونان المتفاقمة.

وبعد سلسلة طويلة من المفاوضات اكتشفت الحكومة اليونانية أن وعودها صعبة التحقيق، وأنه لا مفرّ من الالتزام ببرامج الإصلاحات الاقتصادية، وأن فكرة الإعفاء من الديون عملية غير واردة. وقد وصل الأمر على إثر ذالك إلى تخلف اليونان عن الوفاء بالتزاماتها المالية، حيث لم تدفع قسطاً مستحقاً في 29 يونيو/ حزيران الماضي، بمبلغ 1.5 مليار دولار لمصلحة صندوق النقد الدولي، وبالتالي لم تعد المجموعة الأوروبية ملزمة بالاستمرار في تمويل الوضع المالي في اليونان، بسبب رفض اليونان قبول الإجراءات الإصلاحية التي يطلبها الدائنون.
وأمام هذه المعضلة لم يجد الحزب اليوناني الحاكم إلا الهروب إلى الأمام، من خلال إلقاء المسؤولية، وإحالة الأزمة التي تسبّب بها إلى استفتاء شعبي ملغوم، طلب فيه إلى الشعب بأن يرفض ويصوّت ب«لا» على الإجراءات الإصلاحية المطلوبة من الدائنين، اعتقاداً منه بأن تصويت الشعب ضد هذه الإجراءات، من شأنه أن يقوي موقفه التفاوضي، ويجبر الدائنين على تغيير موقفهم. إلا أن مثل هذا المخطط له تبعات خطرة على مستقبل اليونان في المجموعة الأوروبية. وتحسباً لمثل هذا المصير، بدأ الناس بأخذ احتياطياتهم، من خلال سحب مدخراتهم من البنوك، الأمر الذي أدى إلى شبه إفلاس للمصارف اليونانية، ما اضطر الحكومة إلى التدخل وفرض قيود على سحب الأموال وتحويلاتها، ووضع حد أقصى للسحب من الصراف الآلي، بما لا يزيد على 60 يورو يومياً لكل شخص، كما أجبرت البنوك على إغلاق أبوابها إلى ما بعد الاستفتاء، والمحدد له أن يتمّ هذا اليوم الأحد.
إن المجموعة الأوروبية قد تحركت من جانبها لتوضيح الموقف أمام الرأي العام اليوناني، بأن ما تطرحه عليهم الحكومة اليونانية، ليس هو قبول الإجراءات الإصلاحية أو رفضها، بل هو أبعد من ذلك، حيث يتعلق الأمر باستمرار عضوية اليونان في المجموعة الأوروبية من عدمه. وقد عززت المجموعة الأوروبية من موقفها، بأنه لن يكون هناك بدائل أخرى أفضل مما تم عرضه حتى الآن. وحسبما يبدو فإن الأمر بالنسبة للشعب اليوناني بدأ يأخذ بعداً عاطفياً، وردة فعل تجاه المجموعة الأوروبية بشكل خاص، ومختلف الدائنين وصندوق النقد الدولي بشكل عام، حيث صور الحزب الحاكم في اليونان بأن شروط الدائنين تمسّ كرامة اليونانيين، وأن مثل هذه الشروط فيها إذلال لليونان، وعدم تقدير لظروفه الاقتصادية الصعبة، وأن التصويت ب«لا» على مقترحات الدائنين، من شأنه أن يساعد على الحصول على شروط تعاقدية أفضل.
لكن مهما تكن نتيجة هذا الاستفتاء، فإن اليونان بهذا الأسلوب قد وصل إلى مفرق طرق، حيث إنه وإن رفض الشعب اليوناني مقترحات الدائنين، فإنه من الصعب تخيّل تغيير وتنازل في موقف الدائنين من الوضع المالي لليونان، حيث يفترض بأن المجموعة الأوروبية قد قدمت أفضل ما تستطيع تقديمه لحل هذه المشكلة، وأن أي تغيير في هذا الموقف، قد يمسّ صدقية المجموعة الأوروبية، ولا يبدو بأن مثل هذا السيناريو يمكن أن يكون مقبولاً. أما إذا كانت نتيجة الاستفتاء ب«نعم» للبرامج الإصلاحية، فإن من المرجّح في هذه الحالة استقالة الحزب الحاكم في اليونان، وتشكيل حكومة جديدة، يفترض أن تكون أكثر انسجاماً مع المجموعة الأوروبية. وحسبما يبدو وبغض النظر عن نتيجة الاستفتاء، فإنه نظراً لاستمرار هذه الأزمة لفترة ليست بالقصيرة، فإن الأسواق المالية قد أخذت في الحسبان أسوأ الاحتمالات، بما فيها احتمال خروج اليونان من المجموعة الأوروبية. لذالك لم نجد الأسواق المالية متأثرة كثيراً بهذه الأزمة، كما أن اليورو بدلاً من أن ينخفض، مثلما هو متوقع، في مثل هذه الظروف، وجدناه مستقراً بل متحسناً بعض الشيء، وكأن احتمال خروج اليونان من المجموعة الأوروبية لا يعني للأسواق المالية الكثير، وقد يكون ذلك راجعاً إلى كون الاقتصاد اليوناني لا يمثل وزناً مهماً بالنسبة للاقتصاد الأوروبي، حيث إن الناتج الإجمالي المحلي لليونان لا يزيد على 1-2% من حجم الاقتصاد الأوروبي.
على كل حال فإن الضرر الآن قد وقع وإن شرخاً من عدم الثقة أصبح يطبع العلاقة بين الحكومة اليونانية من جهة والمجموعة الأوروبية من جهة أخرى. لكن في خضمّ هذه التداعيات لا ينبغي أن ننسى أن ما وصلت إليه هذه الأوضاع، ما هو إلا حصيلة وتأكيد للنزعات الانفصالية عن المجموعة الأوروبية من قبل الأحزاب الراديكالية الأوروبية يسارية كانت أو يمينية، حيث إن هذه النزعة الانفصالية تتشارك فيها الأحزاب الراديكالية الأوروبية دون استثناء، بدءاً بالحزب اليساري اليوناني الحاكم، مروراً بحزب بوداموس الإسباني، وانتهاء بحزب الجبهة الوطنية اليميني الفرنسي المتطرف. لذلك فإن الوضع الذي وصلت إليه اليونان، واقترابها من الخروج من المجموعة الأوروبية، لا يبدو أنه تمّ بمحض المصادفة.

*الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"