أمريكا تفقد مكانتها الاقتصادية والسياسية معاً

21:36 مساء
قراءة 4 دقائق

د. جاسم المناعي*

منذ فترة ليست بالقصيرة ومكانة أمريكا في تراجع مستمر على الصعيد الاقتصادي والسياسي بين دول العالم. فعلى الصعيد الاقتصادي لم تعد أمريكا في مقدمة الدول كما كانت في السابق خاصة في مجال التكنولوجيا والصناعات الرئيسية، مثل صناعة الرقائق الإلكترونية والهواتف الذكية والكمبيوترات وصناعة السيارات وغيرها، حيث تردى ترتيبها في هذه المجالات على صعيد العالم بشكل واضح. كذلك فإن جدارتها الائتمانية لم تعد موثوقة، حيث تم مؤخراً تخفيض جدارتها الائتمانية من قبل مؤسسات التصنيف الائتماني إلى درجة سالبة، نظراً للمخاطر المالية المتمثلة في تراكم مديونياتها إلى درجة عالية جداً بحيث لم تعد المكان الآمن للاستثمارات.

ومثل هذا الوضع من شأنه أن ينعكس عاجلاً أو آجلاً على وضع الدولار كعملة احتياط عالمي. ويبدو أن هناك احتمالاً في تفاقم هذا الوضع إذا سادت النزعة الشعبوية لدى السياسة الأمريكية، خاصة إذا ما فاز الرئيس السابق ترامب بالانتخابات الرئاسية العام المقبل، وفقاً لاستطلاعات الرأي حالياً.

وفي حال تكرس السياسات الشعبوية فإن نتيجة مثل هذه السياسات ستكون مزيداً من الانكماش والعزلة لأمريكا، الأمر الذي سيدفع بكثير من البلدان إلى محاولة الانضمام إلى مجموعة البريكس، والابتعاد بمصالحها الاقتصادية أكثر فأكثر عن الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا لا ينبغي التقليل من أهمية مجموعة البريكس، خاصة في حال توسعها المستمر، وانضمام مزيد من دول العالم إلى هذه المجموعة ؛ حيث من شأن ذلك أن يكون له تأثير مهم على التجارة الدولية والتبادل التجاري، كما أن من شأن ذلك أن يغير من نظم المدفوعات العالمية وعملات الاحتياط العالمي. وبالطبع فإن نتيجة مثل هذه التحولات من شأنها أن تفقد أمريكا كثيراً من مصالحها الاقتصادية.

على الصعيد السياسي فإن الوضع ليس بأفضل حال. فشعبية الرئيس الأمريكي الحالي في أدنى مستوى كما أن البديل المحتمل ليس بأفضل من ذلك هذا كما أن شعبية أمريكا على صعيد العالم بشكل عام في تراجع مستمر بسبب سياسة أمريكا الخارجية التي لا تراعي غالباً مصالح شعوب الدول الأخرى، كما أنها في أغلب الأحيان تتجاوز الشرعية الدولية والقانون الدولي. وهناك في الواقع أمثلة عديدة على الممارسات الخاطئة للسياسة الخارجية الأمريكية، سواء تعلق الأمر بما حصل في العراق أو أفغانستان. كما أن الحرب في أوكرانيا كانت بسبب إصرار «الناتو» بقيادة أمريكا على التوسع على حدود روسيا الجغرافية، الأمر الذي لم يكن لروسيا أن تتقبله أو تتحمله.

ومؤخراً وعلى ضوء حرب إسرائيل على غزة وبدلاً من أن تتدخل أمريكا لتهدئة الأمور وجدنا أنها تدعم إسرائيل في هذه الحرب بالمال والسلاح، والإصرار على استمرار هذه الحرب والوقوف في وجه أي قرار لمجلس الأمن من شأنه إيقاف هذه الحرب. هذا بالرغم من احتجاجات الرأي العام العالمي الذي خرج في تظاهرات حاشدة في كثير من دول العالم بما يشمل الدول الأوروبية وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، منددين بهذه الحرب ومطالبين بإيقاف هذا القتل الذي راح ضحيته أبرياء من النساء والأطفال وكبار السن، بالإضافة إلى تدمير المنازل فوق رؤوس سكانها، وخروج أغلبية إن لم يكن جميع مستشفيات غزة عن الخدمة.

للأسف فإن الموقف الأمريكي لا يقتصر فقط على كونه سلبياً، بل يبدو أنه شريك أيضاً في هذه الممارسات غير الإنسانية، والتي تتنافى مع الشرعية الدولية والقانون الدولي. لذلك لا ينبغي أن نستغرب من فقدان أمريكا لكثير من أصدقائها، ليس فقط في دول المنطقة، ولكن في دول أخرى من العالم.

على الصعيد الاقتصادي فإن فقدان أمريكا لجدارتها الائتمانية يرجع بالتأكيد إلى سوء الإدارة؛ حيث إن أمريكا لا تنقصها الموارد، لكن جانب الإنفاق يبدو خارجاً عن السيطرة، الأمر الذي يؤدي بشكل دائم إلى اللجوء لمزيد من المديونية التي وصلت إلى مستويات مرتفعة جداً مما اعتبرت مؤسسات التصنيف الائتماني على أساسه بأن الاقتصاد الأمريكي أصبح ذا مخاطر عالية، الأمر الذي يؤثر بدون شك في القدرة على جذب الاستثمارات، كما يؤثر في وضع السندات الأمريكية، وكذلك في وضع الدولار أيضاً، على الصعيد السياسي فإن الموقف الأمريكي يبدو خاضعاً لتأثير وتدخل جماعات الضغط السياسي الذي تمارسه بعض التجمعات مثل جماعة الضغط اليهودية، والتي تؤثر بشكل كبير في مجريات الانتخابات الأمريكية. ومن المعروف أن جماعة الضغط اليهودية في أمريكا هي من أكبر جماعات الضغط المؤثرة في السياسة الأمريكية، وهذه الجماعة تتمتع بنفوذ كبير، سواء على مستوى الكونغرس أو مستوى المال والاقتصاد أو مستوى الإعلام وصناعة الأفلام. وما تقوم به جماعات الضغط ليس بالضرورة في صالح أمريكا بقدر ما هو يخدم مصالح هذه الجماعات. وإلى أن تتحرر أمريكا من تأثير ونفوذ جماعات الضغط، الأمر الذي هو مشكوك فيه، فإن الأمور وللأسف سوف تستمر على نفس النهج، وستظل السياسة الأمريكية حبيسة هذه المصالح، والتي من شأنها أن تُفقد أمريكا مكانتها ومصداقيتها على الصعيد العالمي.

*الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yf9ujsn2

عن الكاتب

​المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"