الأجواء بعد حرب لم تقع

02:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

نعم ثمة حرب «ممنوعة» بين الولايات المتحدة وإيران، ومصدر المنع أو الامتناع ذاتي، للجانبين. فأمريكا لا تريد أن تخسر جنوداً، ولا أن تنفق أموالاً طائلة، وإيران تدرك جيداً أن ميزان القوى ليس لمصلحتها، وأنها تستطيع أن تلحق الأذى بالأمريكيين وبأطراف أخرى؛ لكنها سوف تجازف في الوقت ذاته بخسارة ما بنته من منشآت حيوية، وليس بأهداف «ثقافية» فحسب وفق تصريح غريب للرئيس دونالد ترامب. ولأن طهران تجيد الحسابات، وتحتكم إليها، فقد كان من الطبيعي أن تكبح النزعة الحربية لدى بعض الزعامات، وأن تكتفي بضربة ذات هدف معنوي؛ حين استهدفت قاعدة عين الأسد في العراق، ما أدى إلى إصابة 11 جندياً أمريكياً. كما أن تأثير العقوبات على طهران، كان من شأنه الحد من الاندفاع نحو مواجهة واسعة، تحرم إيران مما تبقى من موارد النفط؛ وذلك كله معطوف على الوضع الداخلي المتوتر مع استمرار الاحتجاجات بوتيرة مختلفة. بينما الوضع الداخلي الأمريكي يراوح بين فرص متاحة للرئيس ترامب في تقوية مركزه الداخلي أمام إجراءات عزله في الكونجرس التي يقودها الديمقراطيون، في حال ألحق أضراراً كبيرة بالجانب الإيراني، وإضعاف هذا المركز في حال سقوط ضحايا أمريكيين، وخروج المواجهة عن السيطرة السريعة.
وعليه فقد كان من باب الحكمة، أن تنادت دول المنطقة ومعها أكبر عدد من دول العالم إلى التهدئة، وضبط النفس، ولجم التصعيد. إلى أن خرجت واشنطن لتعلن بملء الفم أنها لا ترغب بالحرب ولا تريدها، وأنها تجنح إلى التفاوض مع طهران. وهو أمر ردّده بعض المسؤولين الإيرانيين ومنهم وزير الخارجية محمد جواد ظريف، بأن بلاده تعتصم بسياسة دفاعية تجاه الولايات المتحدة ولا شيء آخر. أما الشحن الإعلامي المتواصل، فلا يعدو أن يكون محاولة للاستعاضة عن الحرب الفعلية بالحرب الكلامية.
الآن وقد انقشع الغبار الخفيف للمواجهة المحدودة، وبعد أن هدأت النفوس بعض الشيء، فإن ثمة مواجهة دبلوماسية من نوع آخر بدأت في البروز، وتتركز حول الملف النووي الإيراني؛ إذ أخذت أطراف أوروبية ومنها فرنسا بالذات، تنزع نحو الدعوة إلى اتفاق جديد يتجاوز اتفاق عام 2015. وتقترب بريطانيا من هذا الطرح. وفي واقع الأمر إن التفاوض الذي تدعو إليه واشنطن لا يتعلق بإبرام معاهدة عدم اعتداء مثلاً بينها وبين طهران، أو حل أي مشاكل ثنائية عالقة بين الجانبين؛ إذ إن الملف النووي يقع في صُلب الموضوعات المرشحة لوضعها على الطاولة، في حال استجابت طهران لنداءات التفاوض. ولهذا السبب بالذات أولاً ( إضافة إلى أسباب أخرى) تحُجم طهران عن الاستجابة لهذه الدعوات، على الرغم من أن تبريد العلاقات مع واشنطن وحتى «تطبيعها» يقع في رأس الأولويات الإيرانية. وترى واشنطن وبعد أن تغيرت قواعد اللعبة، أن الأجواء باتت مهيأة للضغط على طهران بهذا الاتجاه. ولا تقتصر الحال على تغير القواعد؛ بل إن العقوبات المتصاعدة، تضاهي حرباً اقتصادية شرسة تتعرض لها طهران.
ولا شك أن هناك في عالمنا أطرافاً أخرى ذات شأن ووزن في تقرير السياسات التي تحكم كوكبنا، ومن أهمها: الصين وروسيا. ولئن كانت هاتان الدولتان الكبيرتان تقفان إلى جانب إيران دبلوماسياً في مواجهتها للولايات المتحدة، فإن كلاً من بكين وموسكو تتوجسان من النزعة التدخلية في المنطقة التي تتمسك بها طهران، وتؤمنان أن التعاون في المجال الاقتصادي مع طهران مرهون بخفض التوترات في المنطقة، وبإشاعة أجواء سلمية، وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على بلدان أخرى؛ مثل العراق، فاتفاقات التبادل التجاري، وتوريد النفط تتأثر سلباً في حال انتشرت أجواء التصعيد.
وفي جميع الأحوال فإن صيرورة إيران دولة طبيعية؛ يساعد على التهدئة في عموم المنطقة، ويدعم الأطروحات الداعية لأن تتصرف بقية الدول كدول طبيعية؛ ومنها الدولة العبرية، علاوة على الدول الكبرى التي يشتد تدافعها على الإمساك بمستقبل دول منطقتنا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"