الأمن الدولي في نظام عالمي مقطع الأوصال

02:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.غسان العزي

بدأ «مؤتمر ميونيخ للأمن» في عام 1963 كنوع من «اجتماع الرفاق» الأعضاء في حلف الأطلسي، وكان يسمى اللقاء الدولي ثم «المؤتمر الدولي لعلوم الدفاع». ومنذ نهاية التسعينات انفتح هذا الاجتماع السنوي الضخم الذي يعتبر نسخة أمنية عن دافوس، على المزيد من المشاركين، بداية من أوروبا الشرقية والوسطى ثم على فاعلين دوليين من عسكريين كبار ووزراء دفاع وجمعيات بيئية وغيرها، حيث يجلس الليبراليون إلى جانب المحافظين، الأمر الذي يفتح على نقاشات غنية وعاصفة ولقاءات بعيدة عن عدسات المصورين. وقد وصل متوسط عدد المشاركين في هذا المؤتمر الى أكثر من 500 بين زعيم ووزير وجنرال ومدير من أكثر من سبعين بلداً. وتكمن أهميته في كونه منصة فريدة من نوعها على مستوى العالم يتم من خلالها بحث القضايا الأمنية، كما أنه يمنح الفاعلين السياسيين فرصة التواصل بشكل غير رسمي على مدار ثلاثة أيام. وفي تصنيفها للمؤتمرات الدولية اعتبرته جامعة بنسلفانيا أهم مؤتمر من نوعه في العالم.
بين 17 و19 فبراير شباط الجاري انعقدت في عاصمة بافاريا الألمانية الدورة ال55 لمؤتمر الأمن. واشنطن التي لم تشارك في اجتماع دافوس السويسري بسبب «الإغلاق الحكومي» كان لها حضور مهم في ميونيخ على رأسه نائب الرئيس مايك بنس الذي ألقى كلمة تسببت له في انتقادات وردود عنيفة من الروس والصينيين والأوروبيين.
كشف المؤتمر عن التباين الحاد بين وجهات النظر الأمريكية والأوروبية حيال أكثر من ملف دولي لاسيما الملف النووي الإيراني والانسحاب الأمريكي من سوريا والقضايا التجارية، وبات من الصعب رأب الصدع الذي يضرب حلف الأطلسي. فقد اعتبرت المستشارة الألمانية ميركل أن القرارات التي يصدرها ترامب «معادية لحلفاء واشنطن في حلف شمال الأطلسي» وأن اعتباره استيراد السيارات الأوروبية «تهديدا للأمن القومي الأمريكي» هو أمر«يثير الرعب». ووصف وزير الخارجية الفرنسي أودريان مقاربة واشنطن في سوريا بال«غامضة» وتقول للحلفاء «نحن راحلون وأنتم باقون» ما يعني تحميلهم تبعات القرار الأمريكي المتسرع الذي يخلق فراغاً أمنياً في سوريا. وأكدت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي عزم هذا الأخير الاستمرار في «التطبيق الكامل» للاتفاق النووي.
وكرر بنس مطالبة الأوروبيين بزيادة مساهمتهم في نفقات حلف الأطلسي ومعارضته القوية لخط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» الروسي -الألماني الذي يجري بناؤه حالياً والذي يجعل أكبر قوة اقتصادية أوروبية «رهينة لروسيا». وانتقد صفقات شراء الأسلحة التي ينوي أعضاء في الحلف إبرامها «مع أعدائنا»، في إشارة إلى اتفاق مرتقب بين أنقرة وموسكو، مضيفاً «لا يمكننا ضمان الدفاع عن الغرب في حال زاد اعتماد حلفائنا على الشرق».
وكالعادة لم يفوت بعض الزعماء فرصة استغلال منصة ميونيخ في صراعاتهم الإقليمية أو مشكلاتهم الداخلية. بنيامين نتنياهو الذي يتخبط في حبائل الفساد عشية انتخابات تشريعية ستجري في إبريل/نيسان المقبل توجه إلى مواطنيه من ميونيخ ليقول لهم إنهم بحاجة إليه لمواجهة التهديدات الخارجية لاسيما الإيرانية. ورد عليه وزير الخارجية الإيراني ظريف عبر كيل الاتهامات المضادة. وبين الدول العظمى تحول المؤتمر الى ساحة مشادات واتهامات متبادلة بل وتهديدات مباشرة. وزير الخارجية الروسي لافروف اتهم أوروبا بالعودة إلى زمن النازية، وكرر بمفردات مختلفة ما هدّد به بوتين من أنه سيوجه الصواريخ الروسية ليس فقط لأهداف أوروبية ولكن الى الأراضي الأمريكية نفسها بعد انسحاب ترامب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية المتوسطة. وبدورهم قال الصينيون كلاماً واضحاً عن أفول الزعامة الأمريكية على العالم وبداية نظام عالمي لا مكان فيه للهيمنة الأمريكية.
لقد وجد الأوروبيون أنفسهم بين مطرقة الولايات المتحدة وسندان روسيا وأيقنوا بأن الصراع الروسي-الأمريكي يشكل التهديد الأكبر للأمن الأوروبي والدولي. فواشنطن تبني نظم دفاع صاروخية في أوروبا وموسكو توجه صواريخها نحو أهداف أوروبية. صحيح أن ألمانيا وفرنسا وقعتا على اتفاقية مينسك 2 ولكن إذا أرسلت أمريكا الأسلحة الى أوكرانيا وفعلت روسيا بالمثل في دونباس فإن الصراع قد يحتدم ويتوسع ليفلت من السيطرة.
في المحصلة كشفت الجلسات الثلاثين واللقاءات الجانبية (ألف اجتماع تقريبا) طوال أيام المؤتمر الثلاثة عن غياب للحلول لا بل حتى لإشارات الأمل والتفاهم، الأمر الذي دفع الرئيس البولندي مورافيسكي إلى نعي الدبلوماسية الدولية التي وصلت الى نهايتها في هذا المؤتمر. ووضع رئيس المؤتمر، الألماني وولفجانج ايشنجر، تقريره السنوي تحت عنوان «الأحجية الكبرى: من سيجمع قطعها؟» واصفاً العالم بأنه متشرذم ومقطع الأوصال يئن تحت صراعات القوى العظمى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"