الاستعمار وتفتيت الشعوب

01:55 صباحا
قراءة 4 دقائق

عند البحث عن عوامل تخلف الأمة وتأخر أبنائها في مسار الحضارة والانتقال إلى عالم عصر الحداثة والتنوير، يكون السبب هو الاستعمار الذي لعب دوراً كبيراً في عوامل تخلّف هذا الإنسان المستعمَر وقهره وتشكيل تطوره الاقتصادي والسياسي، وارتبط به ليس في كل ما يختص بموقعه الجغرافي وبخصائص جوهر بنيانه الفكري والمادي والاجتماعي، وتطور عواطفه فحسب، وإنما لعب كذلك دوراً بالغ السوء في تفتيت الكثير من الشعوب في الأرض. كما أنه لعب، من دون قصد منه، دوراً حسناً في توحيد الكثير من الشعوب الأخرى، وكان الأمر في كلتا الحالتين خاضعاً لمصالح الدول الاستعمارية.

فقد حدث في القرن التاسع عشر تسابقاً بين الدول الأوروبية: (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا) لاستعمار العالم. وكان لبريطانيا وفرنسا قصب السبق في هذا المضمار، وكانت كل دولة استعمارية تحاول السيطرة على أكبر قدر من الأرض لتكون مستعمرتها كبيرة. ولعل أكثر الشعوب التي عانت من ويلات الاستعمار، وما تزال تعاني حتى الآن هي شعوب إفريقيا والمنطقة العربية. فقد تعرّضت إفريقيا لأبشع صور الاستعمار الأوروبي بعد انعقاد مؤتمر برلين بين الدول الأوروبية في 1884 1885 الذي خصص لتقسيم إفريقيا بين تلك الدول، حيث تم تقسيم القارة وتمزيق شعوبها من أجل تأمين حصة استعمارية لكل الدول الأوروبية الحاضر في ذلك المؤتمر.

وقد أسهم هذا التقسيم العشوائي في إيجاد صراعات دائمة بين الدول الإفريقية بعد استقلالها عن المستعمرين، وهذه الصراعات ما تزال مستمرة ويصعب أن تتوقف قريباً لأن حجم التخريب الذي أحدثه المستعمرون كان كبيراً.

وفي المنطقة العربية، لم يكن حال شعوبها أفضل من حال الشعوب الإفريقية. فقد هجم الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي والإسباني عليها، فاستعمرت فرنسا الجزائر عام ،1830 ومن ثم وضعت تونس تحت حمايتها عام ،1881 وراحت تتطلع إلى استعمار المغرب. وكانت إسبانيا قد قامت عام 1860 بغزو المغرب واحتلت منطقة الريف والصحراء الغربية. وأما فرنسا، فقد وجدت معارضة من ألمانيا التي كانت تريد السيطرة على المغرب للاستفادة من ثرواته المنجمية ما أدى إلى حدوث أزمة دولية كبيرة عام ،1905 فتم تدويل المغرب اقتصادياً بمقتضى شروط مؤتمر الجزيرة الخضراء في إسبانيا في يناير/ كانون الثاني 1906 وتم الحدّ من الامتيازات الفرنسية. لكن فرنسا ما لبثت أن حلّت الأزمة مع ألمانيا من خلال إعطاء هذه الأخيرة أراضي في وسط إفريقيا. وهكذا أصبح المغرب من نصيب الاستعمارين الإسباني والفرنسي عام 1912.

وعلى الرغم من أن فرنسا كانت تستعمر تونس والجزائر وموريتانيا وأجزاء من المغرب، لكنها لم توحّد مستعمراتها هذه تحت سلطة واحدة، لأنها كانت قد ضمّت الجزائر إليها عام ،1848 في حين أنها كانت قد وضعت تونس تحت حمايتها، وتركت للباقي فيها السلطة المحلية. وأما المغرب، فكانت تواجه مشكلات مستمرة فيه، ولذلك ظلت المستعمرات الفرنسية في بلاد المغرب العربي تحت سلطات متعددة.

وكانت إيطاليا قد احتلت ليبيا عام 1912 وتوسعت في الصحراء الكبرى لتستفيد من أكبر قدر من الأرض، ولذلك ظلت ليبيا كبيرة حتى بعد استقلالها عام 1952. وأما بريطانيا، فكانت قد سطت على وادي النيل (مصر والسودان) عام ،1882 والذي كان موحّداً منذ أيام محمد علي باشا. ولذلك تركته بريطانيا على وحدته لتستفيد من الخيرات الموجودة فيه. ولم ينفصل السودان عن مصر إلاّ عام 1956.

وفي المشرق العربي، كانت بريطانيا قد سطت على سواحل الجزيرة العربية من عدن حتى الكويت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان العثمانيون في الداخل، كما كانوا في العراق وبلاد الشام. وفي عام 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى واشتركت فيها الدولة العثمانية، وأثناء الحرب اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقسيم الممتلكات العثمانية في العراق والشام بينهما. وفي عام 1918 انهزمت الدولة العثمانية، ومن ثم انهارت، فوُضِعَ الاتفاق البريطاني الفرنسي موضع التطبيق، وقد استطاعت بريطانيا أن تستولي على ولايات العراق الثلاث (البصرة، وبغداد، والموصل) ووحّدتها تحت سيطرتها، كما أخذت شرقي الأردن وأعطت فلسطين هدية لليهود، وأخذت فرنسا سوريا وأقامت دولة لبنان الكبير.

وعندما انهارت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ظلت المنطقة العربية على حالها من حيث التقسيم الذي أنشأه الاستعمار. ولم تنجح كل الجهود العربية في تحقيق الوحدة بين العرب.

والواقع أن هناك شعوباً أخرى كان لها حظ قوي في عهد الاستعمار، فمثلاً، إندونيسيا، تتألف من نحو 17 ألف جزيرة، وقد جمعتها هولندا منذ القرن الثامن عشر تحت سيطرتها، وظلت موحّدة حتى بعد استقلالها عام 1950. والهند أيضاً، جمعتها بريطانيا منذ أن بدأت في استعمارها عام 1661 ومع أنها شطرتها قبل إعطائها الاستقلال عام 1947 إلى دولتين: واحدة للهندوس وهي الهند، وأخرى للمسلمين وهي باكستان وبنغلاديش، إلاّ أن الهند ظلت مع ذلك كبيرة، فمساحتها أكثر من سبعة ملايين كيلومتر مربع، وعدد سكانها مليار نسمة، وهي الآن قوة عالمية صاعدة، والفضل في توحّدها يعود إلى بريطانيا التي لعلها تلوم نفسها الآن لأنها جمعتها في دولة واحدة.

* كاتب من الإمارات

[email protected]

www.mohammedkhalifa.com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"