الوقت اليوم للاقتصاد وليس للسياسة، وإن كانا متلازمين، لأن السياسة تقود العالم والاقتصاد يقود السياسة، وأن مرض اقتصاد العصر لايكمُن علاجه لدى الاختصاصيين، فليس من يفهم في الاقتصاد هو الذي يتكلم في الاقتصاد أو يعالج مشكلاته اليوم، وليس بالضرورة ان كل ناجح في الاقتصاد يجب ان يكون اقتصاديا، فكثير من مليونيرات اليوم صعدوا القمم من الرصيف، وما أكثرهم، فباعة (الليلام) فتحت لهم في ليلة وضحاها حسابات خاصة في البنوك السويسرية، وفي المقابل ما أكثر المتسكعين على الأرصفة من حملة الشهادات العليا من أرقى الجامعات المتخصصة، وهم يكتوون بنار الأسهم والعقارات بين ظهرانينا اليوم.
التحقت ألمانيا اليوم، وهي القوية اقتصاديا بطابور الانهيارات الأمريكية، فها هو بنك هيبو ريال استيت، ثاني أكبر بنك ألماني للإقراض العقاري قد يعلن إفلاسه حتى قبل نشر هذا المقال، انه ثاني اكبر بنك ألماني، بل أول بنك ألماني كبير يكشف عن ضائقته المالية ويطلب المساعدة، إذ قالت مصادر البنك ان خطة الانقاذ التي أقرها الاتحاد الأوروبي الخميس الماضي كانت ستعني ضخ الحكومة الألمانية مبلغ 37 مليار دولار في البنك، بينما تؤمن مجموعة مؤسسات مالية سيولة نقدية كافية، لكن الرياح لم تجر كما تشتهي السفن، إذ رفضت المؤسسات تلك الخطة، وهذا يعني الإعلان عن الموت السريري للبنك المذكور، وعليه فهو خامس بنك الماني ينضم الى طابور الازمة المالية المتفاقمة في الولايات المتحدة وأوروبا.
نرى ونسمع عن الإجراءات الوقائية التي تتخذ أو اتخذت في أمريكا، والتي أقرت مبلغ 700 مليار دولار للإنقاذ المالي، ودون توقف عند دول الاتحاد الاوروبي ومئات الملايين من الدولارات التي رصدت للإنقاذ في فرنسا والمانيا وحتى روسيا، ولم نسمع في تلك القرارات هل للمستثمرين العرب حصة للرأي، ان لم يكن لهم حق القرار أو التصويت، حيث للصناديق السيادية العربية استثمارات بالمليارات هناك وتحديداً في قطاعي العقارات والأسهم.
وإلى جوار آخر خطاب للرئيس الأمريكي جورج بوش تعقيباً على قرار مجلس الشيوخ الأمريكي الخاص بالإنقاذ المالي، كانت هناك على الطرف الآخر (همسة الطرشان) وهي أدق تعبير يمكن أن يطلق عنواناً ولو مؤقتاً على المناظرة التي دارت بين المرشحة الجمهورية لمنصب نائب الرئيس سارة بالين ونظيرها الديمقراطي جوزيف بايدن، تلك المصارعة التلفازية التي لم تختلف من حيث الأسلوب والتكتيك عن سابقتها التي دارت بين باراك أوباما وجون ماكين، وبالتالي لن تختلف عن لاحقتها الأخيرة بين الديمقراطيين والجمهوريين قبل الإعلان عن نتائج الانتخابات الأمريكية.
فرغم طرق الطرفين لكل الأبواب، تهرب كل منهما من طرق باب الاقتصاد، ورغم أن الرأي العام يميل نحو الديمقراطيين، حسب استطلاعات الشبكات الأمريكية، فإن باراك في المناظرة الأولى بدا واثقاً أكثر من خصمه ماكين، ثم ان نائبه بايدن كان افضل من المتوقع في المناظرة الثانية مع بالين والتي أقيمت في جامعة واشنطن بسانت لويس بولاية ميسوري، إلا أن المناظرتين من حيث المحتوى لم تبدوا للمراقبين اكثر من (همسة الطرشان) يطرح فيها كل طرف على الطرف الآخر أسئلة يتهرب منها ومن الإجابة عنها إذا كان الأمر يتعلق بالأزمات الاقتصادية. وما كادت المناظرة تنتهي حتى التحق بهما الرئيس الأمريكي جورج بوش في آخر خطابه المسنود بموافقة مجلس الشيوخ على رصد 700 مليار دولار كآخر حقنة دولارية للإنقاذ المالي.
قبل حوالي 15 سنة، كان هناك شبه اتفاق بين المسؤولين والمفكرين والمحللين على أن أمريكا أصبحت القوة الاولى في العالم بلا منازع بعد تفكك إمبراطورية الاتحاد السوفييتي، وانها (أمريكا) القادرة على اختراق الكرملين من دون دبابات، وتفتيت البوابة الشرقية برمتها المتمثلة في دول المنظومة الاشتراكية الأخرى من دون إطلاق رصاصة واحدة، ستبقى هي القادرة أيضاً على تفكيك التحالفات الأخرى بصورة مباشرة أو غير مباشرة بإسقاط جدران المتحالفين من دون مرجعيتها، وإقامة تحالفات موالية لها بشكل أو آخر وباسم أو آخر.
والدب الروسي الذي بدا لنا أنه غادر الكرملين منذ جورباتشوف تبين لاحقاً أنه كان نائماً ولم يغادر، وهو الآن يستعيد وعيه وقوته ويتصدى لكل قرار سياسي أو عسكري أو اقتصادي أمريكي، كما حصل أخيراً في الأزمة الجورجية وفي الدرع الصاروخية حتى عندما أقرت أمريكا خطة إنقاذية مالية ب 700 مليار دولار، فإن روسيا اتخذت قراراً برصد 50 مليار دولار للإنقاذ المالي، والمبلغ الروسي لايتجاوز 7 في المائة مما رصدته أمريكا.
وبقي أن نأمل قراراً عربياً موحداً في وجه تلك العواصف المالية، فإذا كانت هناك قرارات أمريكية أوروبية طارئة لإنقاذ اموالها، فأين القرار العربي الاحترازي من مضاعفات تلك الأزمة وتداعياتها على السوق العربية المشتركة والعملة الموحدة والتجارة البينية والصناعات الانتاجية الوطنية؟ دول الصناعات الكبرى تأخذ من العرب كل شيء ولا تنقل إلى دولهم التكنولوجيا، ولا تنتج عندهم صناعاتها الثقيلة الأوزان التي لا تهزها عواصف العقارات والأسهم.
فهل آن لنا ان نطالب الأمم المتحدة التي انهت آخر جلساتها كطبيب أغلق عيادته من دون تحديد الوصفات (روشتة) الطبية لمراجعيه من المرضى، أي أنها انهت دورتها الحالية من دون تشخيص للمرض الراهن (الانهيار المالي)، ومن دون تحديد الطرف المسبب لهذا الانهيار، هل هو الإرهاب مثلاً؟ فإذا كانت الإجابة نعم، فما تعريف ذلك الإرهاب الذي استباح مليارات الدولارات؟