العقيدة النووية الفرنسية الجديدة

04:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

منذ التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في العام ١٩٦٨ بات العالم مقسوماً بين كتلتين: الدول التي تمتلك السلاح النووي «بشكل قانوني ومعترف به»، والدول غير الحاصلة عليه. الكتلة الأولى تضم الدول الخمس الكبرى والتي تملك حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ولو أن هناك دولاً أخرى، كالهند وباكستان وكوريا الشمالية و«إسرائيل» تمتلك مثل هذا السلاح بشكل «غير قانوني» أو غير معترف به.
فرنسا عضو في هذا «النادي النووي» منذ العام ١٩٦٠ والذي بات يضم، في الواقع، تسع دول لكنها تقبع في المركز الثالث في لائحة القوة النووية(٣٠٠ رأس نووي)، وبعيداً جداً، خلف الولايات المتحدة (٦١٨٥ ) وروسيا (٦٥٠٠ ) اللتين تملكان معاً ٩١،٤٪ من الترسانة النووية العالمية. وتأتي الصين في المركز الرابع (٢٩٠ رأساً وقريباً جداً ٥٠٠) أمام بريطانيا( ٢٠٠ ).
وكانت فرنسا، بموجب العقيدة النووية الجديدة التي أعلنها الرئيس شيراك في العام ١٩٩٦، قد ألغت كل تواجد للسلاح النووي على أراضيها وبات ردعها النووي ينحصر في غواصات قادرة على التحرك بسرعة والاختفاء لوقت طويل في أعماق البحار وإطلاق كل أنواع الصواريخ البالستية ذات الرؤوس النووية إلى كل المسافات الممكنة، ومن البوارج الحربية، مثل حاملة الطائرات شارل ديغول، التي تتمتع هي الأخرى بحركية وليونة وسرعة الرد، كما شرح الرئيس هولاند الذي جدد العقيدة في العام ٢٠١٥.
بالطبع فرنسا ليست البلد النووي الوحيد الذي يستخدم الطائرات المقاتلة والغواصات وغيرها في الردع النووي، لكنها الوحيدة ربما التي تخضع لضغوط أنصار البيئة وأحزاب الخضر والمنظمات غير الحكومية، فتبعد الأسلحة النووية عن أراضيها الوطنية وتركز على صناعة الرؤوس الصغيرة التي تجعل من السلاح النووي سلاحاً تكتيكياً واستراتيجياً في الوقت نفسه.
ومنذ عهد الجنرال ديغول بات هناك تقليد رئاسي أن يلقي الرئيس، خلال ولايته الأولى، خطاباً يتعلق بالاستراتيجية الأمنية والدفاعية ويتضمن كلاماً عن الردع النووي بالتحديد. وهذا ما فعله الرئيس ماكرون في السابع من فبراير/شباط الماضي أمام مجموعة من القادة العسكريين والأمنيين والخبراء في المدرسة الحربية في باريس.
كلمة ماكرون جاءت على خلفية مستجدات مهمة في الساحة الدولية منها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل من فرنسا الدولة النووية الوحيدة في هذا الاتحاد.
قال ماكرون بأن «الاستحواذ على السلاح النووي يحمّل المسؤولين السياسيين مسؤولية أخلاقية لا مثيل لها» وذلك في رد غير مباشر على تصريح البابا فرنسيس خلال زيارته لليابان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بأن «الاستحواذ على السلاح النووي عمل غير أخلاقي». فالخيار، بحسب ماكرون «ليس بين مطلق أخلاقي لا علاقة له البتة مع الحقائق الاستراتيجية وعودة فجة إلى مجرد ميزان قوى من دون القانون» مذكراً بالمفارقة المتعلقة بحقيقة «أن الردع يؤدي إلى الاستقرار والسلام وبأن النووي سلاح دفاعي» ونزعه بشكل أحادي «يعرض فرنسا وشركاءها إلى العنف أو الابتزاز أو اضطرارها للاعتماد على الآخرين في الحفاظ على أمنها».
الجديد فيما تقدم به ماكرون هو دعوته الشركاء الأوروبيين إلى الإمساك بمصالحهم الأمنية وذلك في مواجهة نظام دولي يتعرض لقطيعة ثلاثية تكنولوجية واستراتيجية وسياسية-قانونية. دعاهم إلى «حوار استراتيجي» بعد أن أضحت القوة النووية الفرنسية الوحيدة في الاتحاد بعد البريكست. بمعنى آخر عرض عليهم أن يكون للردع الفرنسي الدور الأهم في الأمن الجماعي الأوروبي لاسيما بعد تخلي واشنطن عن حماية أوروبا وموقف ترامب السلبي من حلف الأطلسي.
وبسبب حساسية العلاقة الفرنسية-الألمانية ورد الفعل الألماني السلبي على تصريح ماكرون منذ ثلاثة أشهر عن «الموت الدماغي لحلف الأطلسي» شدد هذه المرة على احترام التزامات بلاده في الناتو، مضيفاً بأن ذلك لا يتنافى مع ضرورة تقوية «الدفاع الأوروبي، هذا العامود الأساسي في بناء الناتو».
دعوة ماكرون هذه تلقفها الأوروبيون، وخاصة الألمان، بحذر شديد. فرنسا متهمة منذ عهد الجنرال ديغول مروراً بالرؤساء اليساريين، بأنها تسعى للاستقلال عن الولايات المتحدة وأكثر من ذلك لتزعّم الاتحاد الأوروبي الذي كان لها الفضل الأكبر في تأسيسه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"