تجاوز الفوضى.. وصناعة الاستقرار

04:56 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. يوسف الحسن

من حسن الحظ، أنني لست صاحب تجربة في السلطة السياسية، مثل الدكتور إياد علاوي، وفؤاد السنيورة، لكي أروي لكم قصة الفوضى في وطننا العربي، ومن واقع تجربتيهما، لكنني العبد الفقير إلى الله، المنتسب إلى سلطة الثقافة وتجربتها في عالم الكلمة والدبلوماسية الثقافية، وأبدأ حديثي بالإشارة إلى قائد عروبي عظيم هو الشيخ زايد، طيّب الله ثراه، الذي نحتفي بمئويته هذا العام، القائد الذي أسس هذه الواحة من الاستقرار والازدهار، ومكّن المرأة حتى صارت قادرة على قيادة طائرة (إف 16)، وشاركت في ضرب إرهابيين في سوريا والعراق، وارتقى بخطابنا وفعلنا لعبور المستقبل، وصنع تاريخاً جديداً لهذه المنطقة.
إن مشروع صناعة الاستقرار، هو مشروع الإصلاح في وطننا العربي، وهو المطلب الاستراتيجي الأول، اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وفي مطلق الأحوال والظروف، قبل وبعد ما يسمّى «الربيع العربي»، وتداعياته المدمرة، من فوضى وتفكيك دول، وانفجار حروب مذهبية وإثنية داخل البلد الواحد، وعبر الحدود، فإن حاجتنا للاستقرار اليوم وغداً، أكثر إلحاحاً وضرورة من أي وقت مضى.
حاجتنا ماسّة لإدراك وفهم مرحلة الانتقال من حالة الفوضى إلى حالة الاستقرار، مرحلة «اليوم التالي بعد الفوضى»، وهي مرحلة تأسيس مهمة، تتطلب رؤية ثاقبة وخريطة طريق تستعيد فيها الدولة السلم الاجتماعي، لأن فقدان السلم، هو فقدان لكل الحقوق، بما فيها الحق في الحياة، ووقف نزيف الفوضى المجنونة، التي دمّرت العمران والإنسان والموارد، حاجتنا لخريطة طريق ترسم آفاق المستقبل، وتفتح أبواب الأمل.
ومن أولويات هذه المرحلة، مسألة إعادة الثقة بين المجتمع والدولة ومؤسساتها، وبناء التوافق الوطني، وإيجاد حلول خلاقة سلمية، وصولاً إلى تحقيق «العدالة الانتقالية»، كمقاربة من أجل العدالة في المجتمع، ومن خلال وسائل وآليات وتدابير قضائية وغير قضائية، ويمكنني أن اختار أربعة عناصر رئيسية، في مشروع صناعة الاستقرار في ظروف الراهن العربي، الغارق في الفوضى والقلق واللا يقين، وصراعات أعراق وعصبيات وهويات فرعية، وانتخابات صورية تشد عَصب الطائفية، ولا تنتج سوى التوتر والمزيد من الفوضى والفساد.
أولهما ؛ سياسي، حيث لا يمكننا التهرب من استحقاقات إصلاح سياسي ودستوري ومؤسساتي لمعالجة هذا التأزم والانسداد، و«موت السياسة»، وعلى رأس جدول أعمال الإصلاح، إعادة بناء دولة القانون، وتعزيز وضمان مبدأ المواطنة المتكافئة، والتربية عليها، واحترام التنوّع، وتدبير الاختلاف وتحقيق الدمج السياسي بعد الفوضى، وتنشيط المجتمع المدني، في مشروع بناء الاستقرار، ومعالجة أزمة الهوية الوطنية الجامعة.
وتندرج تحت هذا العنوان عناوين سياسية أخرى، وقضايا مفصلية، بعضها له صفة الأزمة الممتدة، كقضية الاحتلال ال«إسرائيلي»، وتغوُّله، استيطاناً وإحلالاً وقتلاً وغطرسة، ودوره في تغذية الإرهاب، وزعزعة ركائز السلم والاستقرار والأمن في الإقليم، وقد أضاف القرار الأمريكي الأخير المتعلق بالقدس، عنصراً مهماً في تغذية الفوضى وتقليل فرص الاستقرار وتحويل «التفاوض» إلى لعبة عبثية.
وهناك أيضاً قضايا سياسية أخرى لها صفة الأزمة الممتدة، كقضية الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث منذ 46 عاماً، التي تشكل عنصراً سلبياً في أمن واستقرار الخليج، وفي بناء الثقة، وهناك أيضاً عناوين سياسية أخرى، لأزمات طارئة تتطلب المعالجة بالحكمة والحوار، والتضامن العربي الفاعل، من بينها سياسات وممارسات إقليمية تسعى لاختراق الأمن القومي العربي، وتراهن على استمرار الفوضى والتمزّق العربي، وتوليد مراكز قوى، خارج أجهزة الدولة الوطنية، كالميليشيات الطائفية والإثنية المسلّحة، ما يستدعي فعلاً عربياً مؤثراً، وبناء روح شعبية غير منهزمة وغير قابلة للاختراق واستعادة التضامن العربي.
ثانيهما: اقتصادي، وهو عنصر مهم في صناعة الاستقرار، ويرتبط بحاجتنا لبناء اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار، ومتفاعل مع الثورات العلمية والتكنولوجية، وهي ثورات متلاحقة، غيّرت حياة الشعوب والدول، ولا تطلب إذناً من أحد لدخول الحدود، وتبدو فيها فاعلية (جنرالات) التكنولوجية الجديدة تفوّق فعالية (جنرالات) جيوش، وأداء وتأثير زعامات سياسية وأحزاب، لا مجال في هذه الثورات التكنولوجية للشعارات والخطب، إنما هي امتحانات عسيرة للعقل، ولصناع القرار للخروج من هذه الفوضى والبطالة السياسية والعلمية والاقتصادية ولرسم طريق المستقبل بالأرقام، ولفتح الآفاق أمام تنمية شاملة ومستدامة ومتناغمة، تضيّق الفجوة بين مستويات التنمية في الوطن العربي.
وعلى رأس هذه الامتحانات العسيرة تطوير منظومات علمية متقدمة، تبني القدرات الوطنية، وتعمل على الاستخدام الأمثل لكل الموارد الاستراتيجية، وتعزز قطاعات الأمن الإنساني والمائي والغذائي والطاقة المستدامة، على المستويين الوطني والقومي، وهنا أودّ الإشارة بكل اعتزاز وافتخار إلى تجربة الإمارات، التي أطلقت منذ أيام أجندتها للعلوم المتقدمة حتى العام 2031، لتؤكد من جديد أن دولة عربية، نموذجاً عربياً، قد قرر بإرادته الحرة الذهاب إلى المستقبل بخطى واثقة.
ثالثهما: التعليم والثقافة، وهما رافعتان أساسيتان للاستقرار والنهوض وبناء السلم الاجتماعي والمحافظة عليه، ومواجهة التطرّف وثقافة الموت والفوضى.
إن مشكلة الإنسان الأساسية، إن في توليد الفوضى أو في صناعة الاستقرار، هي في الدرجة الأولى، في أفكاره، في عقله، وفي تعليمه وتربيته وثقافته، إذ لا يكفي أن ينجح الفِعل الأمني أو السياسي، في التغلب على الفوضى، كي يتحوّل المجتمع إلى مجتمع مستقر ومتماسك، فكثير من المجتمعات «الممسوكة»، تعيش وهم الاستقرار، لكن المجتمعات «المتماسكة»، هي المؤهلة لبناء الاستقرار الخلاق والمحافظة عليه.
وطالما بقيت في المجتمع، أو سادت ثقافة الفكر الخرافي والتعليم التلقيني بمحتواه المتخلف، وثقافة الفساد، بما فيه فساد الذائقة، وثقافة الإقصاء، وغياب ثقافة المحاسبة والمشاركة، وقيم التسامح والفكر النقدي، ومنظومة الحقوق المدنية، فإن المجتمع يتكلس وتختل أعمدته الرئيسية، وتطفو على سطحه الطحالب والثعالب، والغلاة والبغاة والطغاة،، وتزدهر فيه ثقافة مهترئة، لا تتسع للتفكير، بقدر ما تتسع للتكفير، ولا تنتج سوى فنّ وأدب وسلوك مبتذل، وتعليم متخلف ومعاق، يولد الفوضى من جديد.
رابعها : الدولة المدنية الحديثة التي تُقر حرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية الاعتقاد، كجزء من منظومة الحريات الفردية والمدنية، ومن خلال الضمانات الدستورية والقانونية، والتربية على قيم التسامح، والعيش المشترك والحوار، وفي إطار تعزيز مشروعية الدولة الوطنية ودورها في ترسيخ السلم والاستقرار والمواطنة المتكافئة.
إن ضمان هذه المنظومة من الحريات، شرط لازب للاستقرار، إضافة إلى أن تأسيس الدولة المدنية يعني وقف التسخير الرديء للدين في الصراع على السلطة، وتحرير المفاهيم التي انقلبت وتحوّرت، وفك الاشتباك بين السياسي والديني، مع بلورة وعي ثقافي اجتماعي جديد، سمته المميزة الانفتاح وقبول الآخر، وحسن تدبير الاختلاف، ونحن في سعينا لاجتثاث مشروع الفوضى، يلزمنا صوغ البديل، الذي يحقق الاستقرار، ويعبر بِنَا إلى المستقبل.
نص الكلمة التي ألقاها الكاتب في مؤتمر مؤسسة الفكر العربي بدبي 11 الجاري

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"