جراح التاريخ.. لا تنام

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. يوسف الحسن
لم تنته بعد فصول الحرب الدموية على غزة، ومازالت مفتوحة على الكثير من الاحتمالات الصعبة والمعقدة، التي قد تكون خارج السيطرة، ما يتطلب وقتاً أكثر، لتقييم نتائجها وتداعياتها وأكلافها البشرية والمادية.

لكن من المؤكد أن مدن غزة، ستوضع ضمن التاريخ الإنساني، من بين المدن التي دُمرت بقسوة بالغة، إلى درجة الإبادة، وبدون ضرورة ماسة، مثلها مثل هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين.

لقد سبق ما جرى في فجر يوم السابع من أكتوبر الماضي، مجموعة من العوامل والتحولات، دفعت بالقضية الفلسطينية نحو مرحلة خطرة، ومن بين هذه العوامل:

*صعود تيارات سياسية وعسكرية إسرائيلية يمينية ودينية هي الأكثر عنصرية وغطرسة وغروراً منذ إنشاء إسرائيل، والأكثر تصميماً على كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وتوسيعاً للاستيطان والاحتلال، وسعياً معلناً لتغيير خرائط المنطقة، وتسريعاً للسيطرة الكاملة على القدس الشرقية، وامتهاناً للمقدسات.

*وعلى المستوى الفلسطيني العام، خاصة الرسمي، فقد تصدّع كثيراً، وافتقر إلى استراتيجية متكاملة وقابلة للتطبيق، لإدارة الصراع، فضلاً عن انقسامات عبثية، وفشل ذريع في مسار أوسلو، الذي جعل من حل الدولتين مجرد شعار.

*وعلى المستوى العربي، ظهرت حالات واسعة من الضعف، ومشاغل و«انشغالات» وطنية ملحة، وانكفاء غير قليل على الذات، لدواعٍ وأسباب متنوعة، بعد أن ترك العرب هذه القضية ومصيرها في يد الإطار الرسمي والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.

*وعلى المستوى الدولي، كانت الشروخ تزداد اتساعاً في عمران التاريخ السياسي للغرب الأوروبي - الأمريكي، من خلال تصاعد منسوب العنصرية تجاه الأقليات، والكيل بمكيالين في العلاقات الدولية، والفساد السياسي، وصعود اليمين المتطرف، وتصنيع النخب السياسية الجديدة، من بيئة المال والأعمال والمصالح، فضلاً عن انشغالات الغرب الفجة، في إشعال فتيل الحرب الروسية الأوكرانية والسعي لإطالتها لا لوقفها وتسويتها.

ومن الدروس والعبر الأولية في هذه الحرب:

*أولاً: إن حروب التطهير العرقي تخلق في الشعوب المقهورة «روحاً قتالية»، وفي توقيت معين قد تصيب أو تخطئ، لكنها لا تتعب ولا تخمد، وتارة تكون ذات صبغة وطنية أو قومية أو يسارية، وأخرى ذات صبغة دينية أو رمزية «إيمانية».

*ثانياً: إنها حرب ممتدة، سبقتها حروب، لكنها في هذه المرَّة باهظة، ومدمرة وهمجية، وتحمل في طياتها «فراغات» قد تستدعي أطرافاً أخرى للانخراط فيها، ولا تمانع إسرائيل من جر أمريكا إليها.

*ثالثاً: إصرار إسرائيل على إحياء سياستها القديمة من خلال إحداث تدمير منهجي، لكل حياة مستقبلية (تدمير قرى ومدن) في قطاع غزة، وتهجير (قسري) للشعب الفلسطيني إلى أراضي دول عربية مجاورة (كما حدث في عام 1948) وتهجير (طوعي) إلى دول أوروبية، مستخدمة شتى وسائل الردع المدني، والضغوط والإغراءات.

*رابعاً: فاقمت هذه الحرب أزمة الوضع الداخلي الإسرائيلي: خسائر عسكرية وبشرية، أسرى ورهائن، نزوح ربع مليون مستوطن، خسائر اقتصادية، تحولات لصالح السلام ووقف الحرب في الرأي العالمي، فشل التهجير القسري، انكشاف «الغموض النووي»، صعود فاقع للخطاب الديني المتطرف، بما يحمله من تأويلات عنصرية وأسطورية، التي تجعل الكثير من الجيران في مرمى النيران في المستقبل.

*خامساً: وفَّرت أمريكا ودول أوروبية أخرى الغطاء السياسي والعسكري والأمني والمالي لآلة حرب الإبادة، ولم تحترم ما تنادي به من مبادئ القانون الدولي وحماية المدنيين، وحريات التعبير والسلام الدولي، وحتى (حل الدولتين). كما لم تستجب لنداءات مؤسسات ومنظمات قانونية وإنسانية أممية، لوقف الحرب واحترام كرامة الإنسان وحقوقه خاصة حقه في الحياة، ولم تتراجع عملياً عن نداءات وصرخات الرأي العام في عواصم كثيرة في العالم.

*سادساً: هناك حاجة ماسة لإعادة هندسة المشروع الوطني الفلسطيني، بعيداً عن البلادة والجهالة والارتجال والشللية والانقسامات، خاصة مع تزايد احتمالات انهيار الوضع القانوني والأمني في الضفة الغربية المحتلة، واستفحال الاستيطان وشراسته وعسكرته، التي ستقود إلى سقوط الذراع الفلسطينية الأمنية للاحتلال.

لا سبيل أمام وقف شلال الدم الفلسطيني، ودماء عربية أخرى، وإنهاء أرق المستوطن والإحلالي الإسرائيلي، وخوفه المستدام، إلاَّ بالتوقف أولاً عن إنكار الوجود المادي للشعب الفلسطيني على أرضه التاريخية، وحقوقه الفردية والوطنية، في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، والاعتراف بالظلم التاريخي والمعاناة التي لحقته في نكبته الأولى، وحتى الآن. افتضحت هشاشة سياسات الردع المدني، على امتداد عقود خلت، بدءاً من القتل بالرصاص أو بالسم، أو التفجير أو التهجير أو التطهير، تقتلهم لكنهم لا يموتون، وتظل (الفكرة) حية وممتدة عبر الأجيال، باعتبار أن (الفكرة) هي حقائق وحقوق.

هل سيفتح توقف الحرب أُفقاً سياسياً حقيقياً لحل الصراع؟ أم سيظل الأفق مسدوداً بالجثث والركام، وبشعارات (حل الدولتين) التوهمية، وبطموحات (حربجيون) متعطشون ولو بالدم والكذب والغرور، لتغيير حقائق التاريخ والجغرافيا، وخرائط الشرق الأوسط؟

.... جراح التاريخ.. لا تنام..

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yan88u4u

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"