مصر التي في خاطري

00:29 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. يوسف الحسن

على غير موعد، التقيته صدفة في صالة الانتظار بمطار القاهرة، قبيل نداء الصعود إلى الطائرة. أقبلت عليه محيياً، ومتسائلاً: ألست.. أنت فلان؟

وقف صاحبي، وقال: «نعم.. هو أنا».. تبادلنا التحيات والذكريات، وقلت له مداعباً: «كبرنا.. يا صديقي، وهدَّتنا هموم السياسة، منذ سنين لم نلتقِ، كانت سنين عجافاً مريرة... أليس كذلك؟». دعاني إلى الجلوس بجواره، وسألته عن وجهة سفره، أجاب بابتسامة غائمة «ليس إلى أبوظبي».. كانت إجابته الاستفزازية دعوة مغرية لي لفتح حوار قصير معه، وخاصة بعد أن عرفت أنه مغادر إلى عاصمة عربية خليجية أخرى.

كنت وصاحبي، طوال أكثر من عقدين، سبقا عقد ما سُمي «الربيع العربي» نلتقي بين حين وآخر، في مؤتمرات وندوات سياسية وفكرية في القاهرة، وبيروت، وطهران، والدوحة، وأبوظبي، وغيرها. نتحاور، نتفق ونختلف في اجتهادات وزوايا رؤى. نتفق في الخطاب النقدي للغرب، في حالات الهيمنة والاستعمار الجديد، والاستعلاء، والتمييز، وازدواجية المعايير، ومحاولات مسخ الهُوية الثقافية العربية، لكننا نختلف في قضايا ما سمي وقتها «الصحوة الإسلامية»، وفي الموقف تجاه سياسات إيرانية كدولة وثورة، وتدخلاتها في الشؤون العربية، فضلاً عن قضايا أخرى طُرحت على الحوار القومي - الإسلامي في تسعينات القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحالي.

قلت لصاحبي: لم أقرأ لك منذ زمن غير قصير.. ولعل «الربيع العربي» قد سلبَنَا «متعة» الحوار وحق الاختلاف، وأسلمنا إلى الخيبة.

قال ومشاعر الإحباط تطغى على كل كلماته وإشاراته: «لقد مُنعْتُ الكتابة». وانتقل بحديثه إلى قضايا مصر الاقتصادية، وأزماتها المختلفة.

لا أدري، لماذا تذكرت أن صاحبنا قد دافع عن «تجربة التكفير» التي ظهرت في الربع الأخير من القرن الماضي، بحجة أن «بطش السلطة يشيع العنف في المجتمع»، وأن «انفراط عقد الجماعة الإخوانية سيحول شبابها إلى داعش، بسبب اليأس والإحباط» على حد قوله.

تذكرت أيضاً ما كتبه صاحبنا في منتصف العقد الثاني من هذا القرن عن جماعات «الإسلام السياسي»، وعن «ربيع» مصر القصير العمر.

وبدا لي أن صاحبنا يفتح نافذة للحوار، في هذه الدقائق القليلة المتبقية للالتحاق بالطائرة. قلت له: يا صديقي، أليس في الواقع المصري اليوم ما يستحق الثناء، ويتطلب الصبر؟ بعد أن ضاعت عقود من أعمار أبنائها، في تجارب «السداح مداح» في السبعينات، وما تلاها من تيه، ونزف، وتراجع في مستويات التعليم والرعاية الصحية والتنمية الثقافية، وشلٍّ لجزء غير يسير من قدرات مصر وشعبها ودورها إلى درجة مؤسفة وصفها الرئيس المصري الأسبق مبارك في معرض رده

على سؤال التوريث... إنها صارت «خرابة».

وسألت صاحبنا وأنا أُودّعه: لماذا لم تجر مراجعة نقدية للسيرة والمسيرة وللأفكار والمواقف بعد أن تبين أن اختيارات الكثيرين من أمثالكم من مفكرين ومثقفين وجماعات منظمة ليست صواباً على طول الخط؟

لماذا الإنكار، أو العجز عن المراجعات الموضوعية، في الأفكار والأهداف والوسائل والمواقف؟ إن المراجعات النقدية هي مؤشر للتصويب والتجديد، ودفن الكثير من الخنادق المتقابلة التي صنعتها أحداث مؤسفة، وخطايا أضاعت أوطاناً عربية وموارد، وأسالت دماءً، وفسَّخت نسيجاً اجتماعياً، وصدَّعت أعمدة بلدان، وعطَّلت تنمية، وأهدرت كرامة الإنسان وحقه في الحياة بعيداً عن قوارب الموت في البحار، وسيوف القتلة المأجورين والسفهاء الذين عبثوا بالدين الحنيف إلى أمداء بعيدة. غادر صاحبنا صالة الانتظار، وودعته، راجياً له السلامة والعافية. لا نضجر من مساءلة أصحاب الخطاب «الإسلاموي» السياسي عن جدوى الاحتفاظ بهذا الخطاب، رغم خطاياه وعثراته وفشله الذريع طوال عقود.

ما فائدة إنكار المراجعات، والاعتراف الشجاع بالأخطاء والخطايا؟ وأحسب أن مراجعة الأفكار، بين حين وآخر، ضرورة لتنشيط العقل، والمراجعات التي نقصدها هي غير التراجعات السياسية التي تتم بغرض مواجهة ضغوط سياسية آنية.

ظلت أسئلة هذا اللقاء وأحوال مصر العربية تسيطر على التفكير طوال رحلة عودتي إلى الديار. نعم.. هناك ورشة عمل كبرى تجري الآن في مصر، وهناك إنجازات تنموية تحققت، وبرامج إصلاح طيبة لقطاعات عدة، وبناء أو تجديد بنى أساسية، وخدمات عامة في القرى والمجتمعات الريفية، ومشروعات قومية للنقل والإنتاج الزراعي.

أقرأ وأسمع نقداً للمشروع التنموي المصري الراهن، رغم أنه يضيء على خطط في إدارة الفقر، وتعبئة الموارد لمواجهة احتياجات شعبية ضخمة ومتزايدة ومتنوعة، وديموغرافية متسارعة النمو (في السنوات العشرة الأخيرة زاد عدد السكان نحو عشرين مليون نسمة)، فضلاً عن حرب على الإرهاب والتفتيت لا تزال ساخنة، وخاصة في الحدائق الخلفية لمصر، في السودان وليبيا، وأخرى في صحارى وجبال وسواحل إفريقيا.

لم يخطئ الشعب المصري في اختيار العلاج، بعد أن خاف على هُويته الجامعة، وسلمه الداخلي، فاستجار بجيشه لتضميد جروحه التي أصابته.

تحتاج مصر إلى فسحة استقرار، وإلى حوار عميق ومستدام، وإدارة رشيدة واحترافية وأمينة للموارد البشرية، وإعلاء المصلحة العامة، بما يضمن العدالة والحرية المسؤولة، والمستقبل الأفضل للأجيال القادمة.

طافت في الذاكرة صورة مصر وهي تعبر بنجاح مأزق المواجهات المسلحة مع الجماعات الإرهابية، التي شلَّت الحياة في القاهرة، وحرقت مباني ومحاكم وكنائس، ذلك الإرهاب الذي عمل على إنهاك الجيش المصري في سيناء، وبدت مصر في وقتها، وفي عيون عشاقها، كأنها تدور حول نفسها.

البدائل مخيفة، وقد جرَّبها الشعب العربي المصري، وشعوب عربية أخرى. ومن مصلحة العرب والإقليم أن تستعيد مصر عافيتها، وأن تتحسن أحوال حياة الناس في ظل استقرار سياسي يفتح الأبواب أمام بناء مشروع تنموي وحضاري وطني.

حضرت إلى الذاكرة صورة الشاعر الشعبي الراحل صلاح جاهين وهو يُسيِّس حناجر المغنين ويقول: «مطرح ما نمشي.. يفتّح النَّوار».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ynvdexx8

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"