سلاح النفط أم الاستثمار

03:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. أيمن علي

حفلت الأسابيع الماضية بعناوين ساخنة ومقالات وتحليلات ومقابلات تلفزيونية وتصريحات نارية وتسريبات خزعبلية حول قضية اختفاء الصحفي السعودي في إسطنبول. ومن بين ما أثير رداً على تكهنات أن المملكة العربية السعودية لديها أوراق للرد على أي إجراء ضدها في أولها «سلاح النفط». وسارع وزير النفط السعودي بطمأنة الأسواق بل جدد التأكيد على توجه السعودية نحو تعويض أي نقص في العرض للحفاظ على توازن السوق.
ومع أن ذلك مثل صوت العقل في خضم صراخ إعلامي في أقله غير مسؤول إلا أنه يعكس استراتيجية لا تتبناها السعودية وحدها، باعتبارها أكبر منتج ومصدر للنفط ورافعة منظمة أوبك الرئيسية، بل كل المنتجين والمصدرين تقريبا بدرجة أو بأخرى. وصدق عمود «كمب» الأسبوعي لرويترز الذي فصل كيف أن النفط لم يعد سلاحاً كما كان عليه الوضع في النصف الأول من السبعينيات. إذ إن موقف السعودية، والدول العربية المصدرة للنفط كلها، دعماً للجيوش العربية التي تحارب «إسرائيل» في 1973 بإعلان تقليص الإنتاج ووقف تصدير النفط لأمريكا لم يعد ممكناً الآن.
ليس فقط لأن حصة أوبك من السوق العالمي تراجعت مما يقرب النصف إلى نحو الثلث مع دخول منتجين جدد وزيادة إنتاج دول مثل روسيا وأمريكا، وإنما لأن العالم منذ ذلك الحين طور صناعاته وخدماته بما يقلل اعتمادها على النفط.
صحيح أن العالم مازال، وسيظل لسنوات، بحاجة إلى النفط لتدوير محركات اقتصاداته، لكن البحث والتطوير يجري على قدم وساق لزيادة نصيب الطاقة النظيفة من الرياح والطاقة النووية وغيرها. وحتى إن لم يكف ذلك لتقليل الطلب على النفط فعلى الأقل سيلبي قدراً من الزيادة الطبيعية في ذلك الطلب العالمي على الطاقة. وبالتالي فإن المنتجين والمصدرين بحاجة للمستهلكين الآن بقدر مواز ربما في تعادل أفضل مما كان عليه الأمر قبل أكثر من أربعة عقود.
ولا يقلل ذلك من أهمية السعودية للاقتصاد العالمي، ودورها المركزي الذي يجعل المساس بها ضرباً من الجنون بل على العكس، يهتم كل من يريد تفادي أزمات كارثية في الاقتصاد العالمي بأمن واستقرار السعودية لأن ذلك يخص أمنه واستقراره الاقتصادي بالضرورة.
أما بالنسبة لأمريكا، فلم يعد مجدياً الحديث عن وقف تصدير النفط لأمريكا إذ إنها تحولت مؤخراً بفض التوسع في إنتاج النفط والغاز الصخري لتصبح لأول مرة في تاريخها تنتج أكثر مما تستهلك وتعد «مصدراً» للنفط. لكن ذلك لم يقلل من أهمية السعودية ودول الخليج عموماً بالنسبة لأمريكا، ليس بسبب النفط وإنما بسبب استثماراتها في الاقتصاد الأمريكي وخاصة في قطاعاته الصاعدة وفي مقدمتها التكنولوجيا.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن الاقتصاد الأمريكي مازال، قاطرة الاقتصاد العالمي وسنده الرئيسي يمكن بسهولة فهم أهمية السعودية للاقتصاد العالمي ككل. صحيح أن هناك اقتصادات صاعدة، وفي مقدمتها الصين، لكن الفارق ببساطة أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنحو 20 تريليون دولار يكاد يكون ضعف نظيره الصيني.
كما أن كل الاقتصادات الصاعدة تقريباً «تصاب بالزكام إذا عطس وول ستريت»، فأغلب مديونيات تلك الاقتصادات سندات دولارية وأي تغير في سعر الصرف الدولار سواء بسبب وضع الاقتصاد الأمريكي وبالتالي أسعار الفائدة الأمريكية أو غيره يعني تغيرات بالمليارات في ديون تلك الدول.
ومع أن الناتج المحلي الإجمالي السعودي في حدود ثلاثة أرباع التريليون دولار، إلا أن المهم هو حجم تشابكه مع الاقتصادات وتحديداً الأمريكي. على سبيل المثال، ضخ صندوق الاستثمارات العامة ما يصل إلى 50 مليار دولار من 2016 حتى الآن في أغلب الشركات التكنولوجية الناشئة في أمريكا أغلبها عبر مساهمتها التي تصل إلى النصف في الممول الرئيسي للمشروعات التقنية الجديدة «سوفت بنك».
وتخيل من الأشياء التي تستعملها، وتتباهى بأنها أمريكية، كم الاستثمارات السعودية التي ضخت فيها وتحافظ على نموها وتطورها. من أوبر إلى تسلا مرورا بغوغل كلاود. تلك الاستثمارات هي التي تعطي السعودية مكانة يصعب المساس بها دون أن يتأثر الاقتصاد العالمي سلباً بشكل يجعل من احتمالات الركود التي يتحدث عنها الاقتصاديون كابوساً أقسى من الكساد.
ببساطة، إذا كانت أمريكا والغرب المتقدم تتطلع لنفط السعودية والخليج قبل نصف قرن فإن التطلع في العقدين الأخيرين هو لثروة تلك الدول وأهميتها في الاستثمارات الجديدة التي تحافظ على دينامو الاقتصاد الأمريكي والعالمي مشحوناً بما يكفي لتفادي الكوارث.

*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"