عندما يقتفي بوتين آثار بوش

00:28 صباحا
قراءة 4 دقائق

يضيف التدخل الروسي في جورجيا جديداً الى سلسلة تراجعات لحقت بنظام وستفاليا الذي تأسس بموجبه النظام الدولي الحديث. ولقد ثبت ذلك النظام منذ القرن الثامن عشر الاعتراف بسيادة الدول المطلقة على أراضيها وشعوبها، وحرم على الدول الأجنبية التدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية. وكانت لهذا النظام حسناته، إذ ساهم في ضمان الاستقرار في زمان ومكان ولادته في القارة الأوروبية، إلا أنه كانت له سيئاته أيضاً حيث إن حكومات مستبدة وفاسدة كانت تتحصن به لكي تأمن المحاسبة الدولية لها.

ولقد كثرت هذه التراجعات بصورة ملحوظة بعد انهيار المعسكر الشرقي وانتهاء الحرب الباردة. وظن كثيرون أن تراجع السيادة الوطنية للدول سوف يفضي الى تعزيز المنظمات الدولية وتوطيد القانون الدولي. وأمل كثيرون أيضاً أن تتحول هذه المنظمات الى ما هو أشبه بالحكومة العالمية التي تشكل رقيباً على أداء الحكومات الوطنية بحيث إذا خرجت عن مبادئ حقوق الإنسان خروجاً صارخاً واستخدمت أساليب القوة العارية المتمادية في الظلم والقسوة، أمكن للسلطة الدولية أن تتدخل لوضع حد لهذه الحالة الاستثنائية. كذلك أمل كثيرون أيضاً أن يتطور النظام الدولي الى نظام أكثر عدالة وأقل محاباة للدول القوية على حساب الدول الضعيفة، بحيث إذا مارست الأولى سياسة العدوان ضد الثانية، تدخلت الأسرة الدولية لوضع حد لسياسة العدوان. أدرجت هذه الآمال والتطلعات تحت عنوان الحق في التدخل الانساني. فهل جرى الالتزام بهذا المنحى في العلاقات الدولية؟ وهل يمكن للأسرة الدولية وللمنظمات الدولية أن تأخذ بهذه المعايير والقيم في موقفها تجاه ما يجري الآن في جورجيا بحيث تصحح الأوضاع ويعود الهدوء الى هذا الجزء من بلاد القوقاز؟

خلافا للآمال التي نشأت بعد انتهاء الحرب الباردة، ولما تتطلبه معالجة المسألة الجورجية من نظرة إنسانية وآليات دولية مناسبة، فإن التطورات الدولية ذهبت في طريق مضاد. فالنظام الدولي الجديد الذي نشأ على أنقاض نظام الثنائية القطبية عزز دور الدول القوية على حساب الدول الضعيفة، واستخدم الأقوياء في الدول القوية والممسكون بأعنة القرار مبدأ الحق في التدخل الإنساني ومندرجاته ومشتقاته كغطاء ايديولوجي لخدمة مصالحهم أو لخدمة مصالح قومية أنانية وضيقة. هذه الأوضاع أضعفت الى أبعد حد قدرة النظام الدولي على الاضطلاع بالأدوار المستقلة في الأزمات الدولية، وحدت من قدرة المنظمات الدولية على الاحتكام لمبادئ العدالة الإنسانية في النظر في هذه الأزمات وفي تقديم الحلول لها. فمن هو المسؤول عن هذه الأوضاع؟ وكيف تطورت على هذا النحو؟

لئن كان من الصعب تحميل جهة واحدة مسؤولية هذا التراجع، فإنه من المحقق أن الإدارة الأمريكية تتحمل مسؤولية كبيرة على هذا الصعيد. فهي التي لبثت القوة العظمى الوحيدة في العالم، وهي التي أعطت نفسها صفة شرطي العالم وجعل قادتها وزعماؤها يقارنون بين بلادهم وبين الامبراطورية الرومانية التي بسطت السلام الروماني على العالم. وهي التي مارست التدخل المباشر والقوي، أكثر من أي طرف آخر في العالم، في شؤون الدول الأخرى. وهي التي امتلكت أكثر من غيرها القدرة على التأثير في مستقبل النظام الدولي وفي إرساء الأسس الجديدة في العلاقات الدولية. بيد أن الإدارة الأمريكية، وخاصة إدارة جورج بوش الحالية التي وبتأثير الأحاديين والمحافظين الجدد دفعت بالمجتمع الدولي على الطريق الثاني. هذا ما يؤكده لنا تفحص الموقف الأمريكي تجاه الأزمة الجورجية ومقارنة هذا الموقف تجاه أزمات دولية مماثلة.

لقد وجه الرئيس الأمريكي نقداً قوياً الى روسيا بسبب تدخلها في جورجيا ولوح بإجراءات عقابية لها جراء هذا التدخل، وأعلن أن بلاده تقف بقوة الى جانب سيادة جورجيا واستقلالها ووحدة أراضيها. هذا ما أكدته أيضاً وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس، وما عبر عنه سفير الولايات المتحدة الى هيئة الأمم المتحدة، خليل زاد، عندما ربط بين التدخل الروسي في جورجيا وبين النوستالجيا التي تصيب الذين يحنون الى الخمسينات، والذين يتصورون أنه بالإمكان إحياء ممارسات تلك الفترة واللجوء الى أساليب القوة وقلب الأنظمة عن طريق التدخل الخارجي.

ليس في هذه المواقف والتحليلات من خطأ، إلا أنها صادرة عن مسؤولين رئيسيين في إدارة جورج بوش، أي أنها صادرة عن إدارة مارست كل ما تفعله روسيا الآن في جورجيا. ويقدم سلوك هذه الإدارة في حرب العراق وتداعياتها نموذجاً مجسماً لأساليب القوة وقلب الأنظمة عن طريق التدخل الخارجي. كذلك فإنه يقدم نموذجاً مماثلاً للدولة الكبرى التي تحتل بلداً آخر وتقدم فيه الرعاية والسند للنزعات المهددة لوحدة أراضيه، تماماً كما تهدد النزعة الإثنية الأوسيتية والأبخازية وحدة الأراضي الجورجية.

تحت أعين الادارة الأمريكية الحانية تحول الملاذ الكردي الآمن والمؤقت الى دولة تحمل كل مقومات الاستقلال باستثناء إعلانها والاعتراف الدولي بها. وفي سياق هذه السياسة شجعت الخارجية الأمريكية، كما جاء في التحقيقات التي أجرتها لجنة تابعة للكونجرس الأمريكي خلال شهر تموز/يوليو الفائت شركات أمريكية مثل شركة هانت أويل أوف دالاس التي يملكها حليف سياسي ومالي لجورج بوش، على توقيع عقد لاستخراج واستثمار نفط منطقة شمال العراق.

في سياق السياسة إياها، مارست إدارة بوش ضغطاً شديداً ومستمراً على الحكومة التركية لكي تمنعها من إرسال قواتها الى شمال العراق لتعقب مقاتلي حزب العمال الكردستاني وتحييدهم، لأن ذلك يضعف سلطة حكومة الإقليم الكردية. كذلك تمارس إدارة بوش ضغطاً على أنقرة لتمنعها من التحرك ضد قيام دولة كردية في الشمال، واستطراداً ضد قيام الزعماء الأكراد بعرقلة الاستيلاء التدريجي على مدينة كركوك العراقية.

عندما ترعى إدارة بوش مشاريع الانفصال وتفكيك الوحدات الترابية والدول الوطنية في العراق والسودان والبلقان، فإن حماسها للحفاظ على الوحدة الترابية لجورجيا سوف يفتقر الى أية صدقية. وعندما تندد إدارة بوش التي نفذت في العراق ما حذر خليل زاد من وقوعه في جورجيا من تغيير للنظام عبر التدخل الخارجي، فإن هذا التنديد جدير بأن يكون مادة للتندر. وعندما تبدي الدعم كل الدعم لسيادة حكومة ساكاشفيلي المنتخبة على كافة أراضي جورجيا بما فيها أوسيتيا الجنوبية والشمالية وأبخازيا، بينما هي تضعف سلطة حكومة حليفها في بغداد نوري المالكي وتحد من قدرتها على بسط السيادة العراقية على كردستان العراق، فإنها لا تفقد سياسة الولايات المتحدة صدقيتها وجديتها فحسب، بل تضع صدقية النظام الدولي برمته، الذي تقف الولايات المتحدة على رأسه، على المحك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"