مؤشرات القيادة عند الشيخ زايد

05:55 صباحا
قراءة 5 دقائق

ليس من السهولة بمكان، الإلمام بمؤشرات القيادة عند قيادي متميز كالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، في مقال مختصر كمقالي هذا، ولا بد من إفراد بحث متكامل يقف على مشارف هذه القيادة ومنعطفاتها إذا أردنا أن يكون لموضوعنا شيء من الوضوحية، وقد كتب عن الشيخ زايد كثيرون في حياته وبعد رحيله، وستظل الكتابة عنه مستمرة شأنه شأن الزعماء والكبار الذين لا يتوقف التاريخ عند مرحلة معينة من حياتهم باعتبار أن هؤلاء الزعماء لهم بصمات غير عادية تركوها على تاريخ شعوبهم، وأصبحت هذه البصمات رافداً يجري ماؤه ويسقي كل ذي ظمأ يبحث عن معلومة أو معرفة .

وهكذا يأتي الشيخ زايد بن سلطان ليقف شامخاً بين هذه القيادات التاريخية عند الشعوب، لاسيما في المنطقة الجغرافية التي عاش فيها وهي المنطقة العربية أو الشرق أوسطية، وقد نكون غير منصفين لو اختصرنا زعامة زايد وقيادته على هذه المنطقة الجغرافية وحدها، باعتبار أن زايد كانت له الصفة العالمية، وعرف في الشرق والغرب على أنه يقف في الصفوف الأولى بين زعماء العالم وأصحاب القيادة فيه، ومن البناة الكبار لكيانات الدول التي ولدت في العصر الحديث، كدولة الإمارات العربية المتحدة والتي تعتبر اليوم في مقدمة الدول المساهمة في إثراء الحياة المدنية والحضارية التي يسعى إليها الشعوب في كل مكان . .

وقد لازمت مؤشرات القيادة الشيخ زايد بن سلطان منذ ريعان الشباب وهو لم يكمل بعد العقد الثالث من عمره، عندما تولى أمور الواحات في العين والبريمي وما يحيط بهما من المضارب والقرى . ومن هذه المؤشرات القيادية التي لفتت إليه الانظار في تلك السنين حوالي العام ،1946 وبعد الوقت الذي أتيح له أن يكون زعيماً في تلك المراحل السابقة الذكر، هو مؤشر الجمع بين الزعامة المدنية والزعامة البدوية، فالبدو أو أهل الوبر على سبيل المثال وهم أصحاب الحول والطول في ذلك الوقت وفي تلك البقاع، كانوا يرون فيه الزعيم غير المنازع وعقيد القوم الذي تشرئب إلى ذكره الأعناق . . والمدنيون أو أهل المدر اعتبروه النوخذة الذي يقود سفينة فيها من كل الأصناف والأدوات التي يتطلبها بناء المجتمع المدني الذي تقوم حياته على الاستقرار والتجارة والزراعة ومؤسسات الإدارة المدنية من قضاء وتشريع ونظم إدارية واجتماعية مختلفة، ومثل هذه الحياة ذات الملامح المدنية كما هي معروفة، كانت تفتقر إليها الواحات، وتختصر على المدن الساحلية في الإمارات من أبوظبي ودبي والشارقة وحتى الشرق في إمارة الفجيرة وكلباء، كل على قدر ما تحتمه الحاجة والظرف والإمكانات المتاحة .

ولم تمر سنوات معدودة وقبل انتهاء العقد الرابع وبدايات الخمسينات من القرن الماضي حتى لاحظ الناس أن واحة العين وما جاورها بدأ فيها تكاثر السكان الذين جاؤوا إليها من أنحاء مختلفة من الإمارات، وأقيمت فيها الأسواق والمزارع والمهن الحرفية بفضل المؤازرة والتشجيع اللذين لقيهما كل هؤلاء من الشيخ زايد بن سلطان، وأصبحت العين مدينة فيها من مظاهر الحياة العصرية الشيء الكثير الذي لم يكن للواحات عهد بها من قبل .

ومما يلفت التاريخ أنظارنا إليه هو أن زايد بن سلطان لم تقتصر زعامته على القيادة المسيّرة للأمور المعيشية للسكان من بدو وحضر في واحات العين في ذلك الزمن، بل إن الشيخ زايد اكتسب من الخصال التكتيكية السياسية ما جعله زعيماً سياسياً وقائداً عسكرياً حسن التدبير، أثار الأعجاب ولفت إليه الانتباه من كل من احتك يومئذ بالظروف التي مرت بها المنطقة في مستهل الخمسينات من القرن المنصرم، ومن يقرأ الكتب التي ألفها الغربيون من سياسيين وقواد عسكريين ورحالين من بعض من وضعنا أسماء كتبهم في حاشية هذا المقال، فإنه يجد مصداق ما نقوله، وللأسف فإن معظم من كتبوا عن المنطقة بعد الخمسينات من القرن الماضي، من عرب الأمصار، لم يكونوا من ذوي إلمام كبير بما مر من الحوادث وما تمخضت عنها من الأمور، وجاءت كتاباتهم عن المنطقة الخليجية عموماً سطحية، ولتساير الأهواء السياسية، الراديكالية التي كانت سائدة في تلك الأيام نتيجة الحركات الانقلابية العسكرية الراديكالية المتوالية لاسيما في الشام والعراق واليمن، بشقيه الشمالي والجنوبي، وكان الكتاب الأجانب أكثر قرباً من الحوادث، نظراً لتعايشهم في منطقة الحدث وقدراتهم الفنية في التحليل، والوقوف على المعلومة، واستقائها من مصادرها الصحيحة حتى ولو تعرضوا للعناء والمخاطرة . .

ولقد واجه الشيخ زايد من المصاعب ما تنوء به الكواهل في هذه الفترة، فترة السنوات التي حكم فيها بوادي العين وحواضرها 1946- ،1966 ولو تناولنا هذه الحوادث لكانت كثيرة ومتشعبة، لكننا هنا نأتي على ذكر أهمها بالعد الرقمي تعميماً للفائدة التي نتوخاها من الاشارة إلى الحقائق التي نادراً ما تطرق اليها المتحدثون والباحثون . .

1- التخطيط لتحضير الرحّل من البدو، ويعد الشيخ زايد أول زعيم يحاول ذلك في تاريخ المنطقة وكان هذا التخطيط له تداعيات حضارية، حيث أدى إلى استقرار الرحّل في الواحات وتقبل الحياة المعيشية للحضر والانخراط في العمل المجتمعي بشكل أو بآخر .

2- المساهمة في تكوين جيش ساحل عمان الذي أصبح فيما بعد نواة للجيش الاتحادي وجعل البدو من مكونات هذا الجيش وجنوده بحيث أصبح البدوي يأمن العمل والاستقرار والدخل المادي الثابت والركون إلى الحياة المنتجة .

3- الوقوف بحزم في مجابهة الأطماع الخارجية المتمثلة في الغزو المفاجئ من قبل عناصر خارجية، وكذلك التصدي للإرهاب الداخلي الذي تعرضت له عمان، وتأليب كل القوى للتصدي، والنجاح الذي رافق ذلك بخروج زايد من المعمعة قائداً مدبراً يشار إليه بالبنان .

4- التصدي بالدبلوماسية والادارة القوية لمحاولات الهيمنة من قبل بعض القوى الراديكالية في العالم العربي التي أرادت بسط هذه الهيمنة في صور من المسميات المختلفة كالإعانات والمشروعات المشروطة والمبطنة بالمآرب .

5- مشروع الشيخ زايد في وضع اللبنات الأولى لقيام دولة اتحادية كبرى في المنطقة بعد تسلمه مهام حكومة أبوظبي عام 1966 .

هذه المشروعات الخمسة الكبرى التي لا تخطئها عين المؤرخ المدقق، وكل مشروع منها، يحتاج إلى بحث متكامل كما قلنا في بداية هذا الحديث . . . وفي رأيي أن هناك شهوداً على العصر من مواطنين وغيرهم، لابد من رصد شهاداتهم وتوثيقها والوقوف عليها خدمة للتاريخ وخدمة لهذه الشخصية الكبيرة التي تقف في الصفوف الأولى في تاريخ الشخصيات العربية البناءة في تاريخ العرب من محيطها إلى خليجها .

وسيظل الشيخ زايد الذي رحل عن دنيانا في مثل هذا اليوم التاسع عشر من رمضان عام ،2004 رافداً يعطي التاريخ الإماراتي زهواً ومفاخر في حركة البناء والاعمار اللذين تشهدهما المنطقة . رحم الله الشيخ زايد رحمة واسعة وأنزله منازل الصالحين ممن خدموا الإنسانية والبشرية .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"