مذابح رواندا والكبرياء الفرنسي

05:49 صباحا
قراءة 5 دقائق

قررت سلطات جمهورية رواندا، في الخامس من أغسطس الجاري، نشر التقرير الذي أعدته لجنة وصفت بالمستقلة، وكلفت جمع الحجج التي تثبت تورط الدولة الفرنسية في الإبادة التي عرفتها رواندا سنة 1994. وعلى الرغم من التحفظات التي قد يثيرها التقرير المذكور، والتمحيصات التي يتطلبها.. فإنه يوجه صفعة قوية لفرنسا، ويضاعف ما على رقبتها من ديون تجاه شعوب عدة تعرضت لبطش القوات الفرنسية أو عانت من الدعم الذي قدمته هذه الأخيرة لصنائعها، من الطغاة والمستبدين. والمأمول أن يساهم التقرير الرواندي في الحد من غلواء كثير من المسؤولين والناشطين الجمعويين الفرنسيين الذين يواصلون تقديم الدروس في مجال حماية حقوق الأقليات ونبذ التمييز العرقي متناسين ما اقترفته دولتهم من انتهاكات وجرائم في نفس المجال، وفي جهات عدة من العالم.

وإذا كان الوطنيون الروانديون يرفضون اعتبار الهوتو والتوتسي اثنيتين مختلفتين، ويعتمدون في هذا الرفض على كون الجانبين يتحدثان لغة واحدة، ويشتركان في نفس الثقافة ومجمل العادات والتقاليد.. فإنهم، مقابل ذلك، يعتبرون أن التمايز القائم بين الهوتو والتوتسي هو تمايز اجتماعي واقتصادي وليس تمايزاً عرقياً. وعلى أساس التمايز المذكور يمارس الأولون الزراعة ويحترف الآخرون الرعي وتربية المواشي. ولم تحل الاحتكاكات، التي تحدث بين مثل هاتين الفئتين في بيئات مختلفة ودول عديدة، بين الهوتو والتوتسي في رواندا دون التعايش والتصاهر والتكامل.

ويعود الفضل الكبير في توتير العلاقات بين المكونين الرئيسيين لشعب رواندا، وإضفاء الطابع العرقي والرسمي عليها، إلى السلطات الاستعمارية البلجيكية التي سيطرت على هذا البلد منذ الحرب العالمية الأولى إلى سنة 1962. وبعد أن عمق المستعمرون انقسام الشعب الرواندي، وفرضوا بطاقات الهوية القائمة على التمييز بين الهوتو والتوتسي ضيقوا الخناق على الأخيرين نظرا إلى طليعيتهم في المطالبة باستقلال البلاد، وتحالفوا مع الأولين الذين أسسوا حزبا يدعو إلى تحرير الهوتو من التوتسي أولا، واقترف هؤلاء عدة مذابح في حقهم اضطرت الكثيرين منهم إلى النزوح خارج البلاد. وفي هذا السياق سيطر المتطرفون الهوتو على الوضع، وهيمنوا على الدولة التي قامت بعد الاستقلال، وازداد الطين بلة بعد استيلاء الجنيرال هابيا ريمانا على الحكم سنة 1975. وكرس نظاما ذا طبيعة فاشية يقوم على التمييز بين التوتسي والهوتو لمصلحة الأخيرين.

وفي الوقت الذي كانت فيه فرنسا الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتيران، في نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن المنصرم تقيم الدنيا وتقعدها في القارة الأفريقية من أجل إحلال الديمقراطية وفرض التعددية الحزبية، كانت قد اندفعت في إقامة تحالف قوي مع نظام هابيا ريمانا في رواندا. وكان المستشارون العسكريون الفرنسيون ينتشرون في هذه البلاد.

وازداد الدعم العسكري الفرنسي للنظام المذكور بعد الهجوم الذي تعرضت له العاصمة الرواندية كيغالي في اكتوبر/ تشرين الأول من سنة 1990. على يد الحركة الثورية الوطنية من أجل التنمية التي أسسها المنفيون التوتسي في أوغندا المجاورة.

ولم يقف الدور العسكري عند حدود التكوين والتدريب بل تعداه إلى تنفيذ مهمات المراقبة ذات الطبيعة البوليسية وإقامة حواجز التفتيش على الطرقات بحثاً عن المشبوهين الذين لم يكونوا غير الروانديين التوتسي. وبالإضافة إلى تدريب وتسليح ميليشيات الهوتو لعب الدركيون الفرنسيون دوراً رئيساً في وضع نظام معلوماتي لتطبيق التوتسي وهو نظام يذكر بنظيره النازي الذي اعتمد لفرز اليهود وتصفيتهم خلال الحرب العالمية الثانية.

وإذا كانت القوات الفرنسية قد انسحبت من رواندا سنة 1993 بعد قيام حكومة انتقالية فيها نتيجة مفاوضات بين نظام هابيا ريمانا وبين الثوار التوتسي، وبعد حلول قوات الأمم المتحدة، فإن تلك القوات عادت إلى رواندا بعد اتساع حملة الإبادة التي انطلقت بعد مقتل الرئيس هابيا ريمانا في السادس من ابريل/ نيسان سنة 1994. وكان دافع هذه العودة هو إخراج الرعايا الأوروبيين من العاصمة كيغالي. وفي الثاني والعشرين من يونيو/ حزيران من السنة نفسها أسندت الحكومة الفرنسية لقواتها في رواندا مهمة وقف المذبحة، وهو الأمر الذي اعتبره التوتسي في حينه، محاولة فرنسية لإنقاذ النظام الفاشي.

ويقول التقرير الذي أعدته اللجنة الوطنية المستقلة برئاسة وزير العدل السابق جان دو ديوه موسيون، إن الفرنسيين وقفوا إلى جانب نظام هابيا ريمانا، وأعدوا معه، تدريباً وتسليحاً وتخطيطاً، حملة الإبادة التي أودت بحياة أكثر من مليون نسمة في بلاد لا يتجاوز عدد سكانها سبعة ملايين. ويضيف التقرير أن الفرنسيين شاركوا في تلك الحملة، وتفرجوا على الإعدامات الجماعية والاغتصابات، وساهموا في هذه الأخيرة، وأخفوا المقابر الجماعية. وبالإضافة إلى كل ذلك واصلت فرنسا ليس التمسك بالبراءة فقط، بل هاجمت النظام الرواندي الذي أقامته الجبهة الوطنية الرواندية على أنقاض نظام هابيا ريمانا، وتهربت من مساعدة هذا البلد على تضميد جراحه وإعادة بناء ما دمر منه، ثم اندفعت في متابعة قادة النظام الجديد قضائيا بتهمة اغتيال الرئيس الرواندي السابق سنة 1994.

وما يستحق الكثير من التأمل أن التجربة الفرنسية التعيسة في رواندا لا تحسب لا على اليسار وحده ولا على اليمين وحده، بل تحسب على مجمل النخبة السياسية الفرنسية التي كانت يومئذ تتعايش في مؤسسات الحكم. وكان الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتيران يرأس الجمهورية في ولاية ثانية، وكان اليمين الفائز في الانتخابات التشريعية يسيطر على الجهاز الحكومي بقيادة الوزير الأول ادوار بالادور. ولذلك فإن قائمة المسؤولين الفرنسيين الذين تتهمهم لجنة موسيون تضم شخصيات من اليمين مثل بالادور ووزرائه في الخارجية والدفاع آلان جوبي وفرنسوا ليوتار، وتضم شخصيات من اليسار في مقدمتها فرانسوا ميتيران ونجله جان كريستوف، إضافة إلى العديد من ضباط الجيش والدرك.

لقد تسرع عدد من المسؤولين الفرنسيين الذين كانوا موضع اتهام من قبل لجنة موسيون، واعتبروا تلك الاتهامات غير مقبولة. وسار على نهج هؤلاء المسؤولين عدد من الكتاب والصحافيين الذين اعتبروا تقرير اللجنة الرواندية مجرد رد فعل على المذكرة التي أصدرها قاض فرنسي في حق المسؤولين الروانديين. والأقرب إلى الحقيقة أن ما ذكر عن تقرير موسيون ينطبق أولا على المذكرة القضائية الفرنسية التي صدرت سنة 2006 بعد عامين على تكوين اللجنة الوطنية المستقلة في رواندا. والأهم من ذلك أن كيغالي التجأت إلى القضاء الدولي للنظر في مدى جدية المذكرة الفرنسية، غير أن باريس تهربت من المواجهة.

ولكن أصواتا فرنسية موضوعية بادرت إلى التذكير بحقائق ومعطيات تؤكد ضرورة الاهتمام بتقرير موسيون الذي يستند في الجزء الأول منه إلى ما توصلت إليه لجنة برلمانية فرنسية سنة 1998 في موضوع الدور الفرنسي في رواندا، ويضيف إلى ذلك تفاصيل وتدقيقات مدعمة بوثائق جديدة وشهادات حية.

وتشير تلك الأصوات إلى أن تقرير اللجنة البرلمانية الفرنسية سالفة الذكر، التي ترأسها بولكيليس تركت الباب مفتوحا أمام إمكان العودة إلى موضوع الدور الفرنسي في رواندا عندما تظهر عناصر جديدة مثل العناصر التي يتضمنها تقرير لجنة موسيون، وهو تقرير ساهم في إنجازه أكاديميون مشهود لهم بالكفاءة في الجامعات الغربية، ويعد كتاب أحدهم، وهو جان بول كيمونيو، من أعمق ما كتب عن مذابح 1994 وأكثرها توثيقاً.

فهل تتواضع النخبة السياسية الفرنسية قليلاً؟ وهل تفتح صدرها هذه المرة للانتقاد الموضوعي؟ وهل تجرؤ على التخلص من ديونها الثقيلة إزاء العديد من الشعوب التي ابتليت باحتلالها أو بتدخلها؟ وكيفما كان الأمر، فإن تلك الديون لاتزال تثقل كاهل فرنسا، وتعيق نمو علاقاتها الخارجية، وتشكك في مصداقية عدد من مبادراتها السياسية والحقوقية والانسانية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"