مساءلة الانتهاكات الفرانكوية

04:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

مرت في العشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، الذكرى السنوية الثالثة والثلاثون لوفاة ديكتاتور إسبانيا الشهير، الجنرال فرانسيسكو فرانكو، الذي قاد الثورة المضادة ما بين 1936 و1939 ضد الجمهورية، وحكم البلاد بقبضة من حديد من 1939 إلى ،1975 وسجل عليه التاريخ خلال الفترتين مذابح مروعة ضد خصومه وقمعاً شديداً ضد معارضيه.

وإذا كانت أواسط خريف 1975 التي شهدت احتضار ثم وفاة فرانكو تثير لدى معظم المغاربة الذين عايشوها ذكريات عزيزة عليهم ترتبط بنجاح الرباط في الضغط على السلطات الإسبانية التي كانت تحتل، يومئذ، الصحراء الغربية، وفي دفعها تلك السلطات إلى التخلي عن مشروع أحداث دويلة في الإقليم تابعة لها، وفي تسليمها بالجلاء عن الإقليم لصالح المغرب وموريتانيا حينئذ.

ويبدو أن احتضار ثم وفاة الدكتاتور الإسباني ساعدت الرباط في تحقيق النجاح المذكور، وجعلت الموقف الإسباني خلال المفاوضات العسيرة التي دارت بمدريد، مرتبكاً وضعيفاً في وقت كان فيه الفرقاء الإسبان منشغلين بما هو أخطر وأهم وهو مستقبل بلادهم بعد رحيل فرانكو.

أما الإسبان الذين كانوا يخلدون ذكرى وفاة الزعيم بالصلوات الواسعة والمهرجانات والمسيرات الحاشدة، فقد انحسرت حركتهم مع مرور السنين، ونزل عدد المشاركين في القداس الذي أقيم عند ضريح الجنرال الراحل عن مائة شخص، وعجزت مؤسسة فرانسيسكو فرانكو التي تترأسها ابنة هذا الأخير، كارمن، الاحتفاظ بأعضائها. ويقول الوزير الأول الإسباني الحالي، الاشتراكي خوسي لويس زاباتيرو إن غالبية الإسبان لم يعودوا يذكرون أن العشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني يوافق يوم وفاة فرانكو. وإذا كان زاباتيرو قد ابتهج بهذا النسيان، واعتبر من الجيد أن يتم دفن كل ذلك في النسيان، في أعمق أعماق الذاكرة الجماعية.. فإنه وحكومته لا يكتفيان بالابتهاج، بل يمارسان كذلك سياسة حذرة تسعى إلى إزالة الرموز الفرانكوية المختلفة من كافة الفضاءات العمومية المشحونة بها.

وإذا كان نسيان فرانكو وعهده الذي يبتهج به زاباتيرو ويعمل من أجله، وتتأكد على الأرض مؤشراته سنة بعد أخرى قد استند إلى قانون فبراير/ شباط 1977 الذي صنف جرائم فرانكو خلال ثورته المضادة وخلال حكمه الطويل باعتبارها جرائم سياسية، وقرر العفو على مرتكبي هذه الجرائم خلال الفترة ما قبل 15 ديسمبر/ كانون الأول من سنة ،1976 فإن القانون المذكور الذي عكس ميزان القوى، في زمن صدوره، بين أنصار فرانكو ومخالفيهم، وحظي بتوافق أهم الفرقاء السياسيين الإسبان الذين وضعوا في مقدمة أولوياتهم، يومئذ، تأمين الانتقال السلمي لبلادهم إلى الديمقراطية، لم يعد بعد مرور كل هذه السنين، وبعد استقرار إسبانيا في نادي الدول الديمقراطية، وبعد التقدم الكبير الذي حققته العدالة الإسبانية التي أصبحت تتمتع، منذ سنة ،2005 بصلاحيات كونية تسمح لها بالنظر في جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في مختلف جهات العالم، لم يعد بعد كل ذلك وغيره، من المبرر قانونياً وإنسانياً التقيد بقانون العفو سالف الذكر، ولا سيما إذا أخذت بعين الاعتبار عذابات عشرات آلاف الأسر التي لا تزال تبحث عن ذويها المفقودين المستقرين تحت الأرض في مئات المقابر السرية الجماعية المنتشرة في عدة جهات من البلاد.

ويبدو أن مثل هذه التطورات التي سلفت الإشارة إليها هي التي شجعت القاضي الإسباني الشهير بالتزاركارزون على الاستجابة لمطالب عشرات جمعيات أسر المفقودين، والإعلان في الثامن عشر من سبتمبر/ أيلول الماضي عن فتح تحقيق في موضوع هؤلاء المفقودين المقدرين بنحو 114000 شخص. وفي إطار هذا التحقيق طلب القاضي من مختلف الجهات ذات الصلة بموافاته بمعلومات في الموضوع، وطلب كذلك بفتح عشرات المقابر السرية، وإضافة إلى هذا وذاك، طلب من السلطات المختصة. بموافاته بشهادات وفاة الجنرال فرانكو وعدد من شركائه لاستبعاد من مات منهم من المساءلة القضائية، وإخضاع من لا يزال على قيد الحياة لهذه المساءلة.

وحاول القاضي كارزون تجنب الاصطدام بقانون عفو سنة ،1977 معتبراً أن هذا القانون يتحدث عن جرائم سياسية، في حين أن التحقيق الذي قرر القيام به يتعلق بجرائم حرب وبجرائم ضد الإنسانية لا يطالها التقادم.

ولكن الاعتراض الذي تقدمت به النيابة العامة إلى أعلى محكمة جنائية إسبانية وهي الهيئة الوطنية وتجاوب أغلبية قضاة هذه الهيئة مع الاعتراض سالف الذكر أحبط محاولة الالتفاف على قانون العفو عن الجرائم الفرانكوية، وأشهر هذا القانون في وجه القاضي كارزون، وفرض عليه التخلي عن التحقيق الذي سعى إلى القيام به، والاكتفاء بإحالة موضوع المقابر الجماعية السرية على المحاكم الإقليمية لتنظر في كل حالة من حالاته على حدة.

ولكن فشل المحاولة المذكورة لا ينبغي له أن يعمي الأبصار عن التقدم التدريجي الذي يتحقق على صعيد محاصرة الماضي الدموي للفرانكوية وتضييق الخناق عليه، ومراكمة المتطلبات الضرورية لإخضاعه للمحاسبة القضائية.

وفي إطار هذا التقدم ينبغي التذكير بالدور الذي قام به الاشتراكيون قبل أن تهب عليهم عواصف الأزمة الاقتصادية، وتقديمهم لقانون الذاكرة الذي صادق عليه البرلمان الإسباني في اكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. وعلى الرغم من أن هذا القانون تجنب الخوض في المسؤولية السياسية لعهد فرانكو، فإنه فتح الباب لإعادة الاعتبار لضحايا هذا العهد، وقرر تقديم المساعدة العمومية للأسر الباحثة عن جثامين ذويها من هؤلاء الضحايا.

وتعتبر المحاولة الجريئة التي قام بها القاضي كارزون رغم فشلها، تقدما في مجال الإقدام على مساءلة الانتهاكات الفرانكوية. ولم تكن مثل هذه المحاولة متصورة قبل عقد من السنين حين كان الحزب الشعبي اليميني يتحكم في الحكومة والبرلمان.

وينبغي في هذا السياق تثمين الموقف الهام الذي تبنته لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة عندما أوصت إسبانيا بكل وضوح، في بداية الشهر المنصرم، بإلغاء قانون العفو الصادر سنة 1977.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"