تداخل الغرائبي بالواقعي في رواية "طوق الحمام"

فازت بجائزة البوكر العربية في أبوظبي
13:05 مساء
قراءة 9 دقائق

تقدم الروائية السعودية رجاء عالم في روايتها طوق الحمام التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية البوكر العربية 2011 مناصفة مع القوس والفراشة للكاتب المغربي محمد الأشعري، عوالم متعددة وسياقات متشعبة، يتداخل فيها الغرائبي بالواقعي والراهن بالتاريخي والمكاني بالزماني والعقلي بالوهمي، عبر سرد يطول ويتشعب في كل اتجاه .

الحكاية الأساسية في الرواية هي بحث يجريه المحقق ناصر لمعرفة هوية تلك المرأة التي وجدت جثتها محشورة بين جدارين في أحد الأحياء وأسباب موتها، لكن هذه الحكاية، تتحلل إلى حكايات لا تنتهي وتسير في اتجاهات عدة، فحين يباشر المحقق عمله تكون المعطيات الأساسية عنده هي مقالات يوسف في جريدة أم القرى ورسائله إلى محبوبته عزة المرشحة لأن تكون هي الميتة، والرسائل الإلكترونية التي تركتها عائشة في سلة المهملات على سطح حاسوبها الآلي، قبل أن تختفي، وهي مرشحة أيضاً لأن تكون تلك المرأة الميتة، رسائل عائشة كتبتها لعشيقها الألماني الذي تعرفت إليه قبل أشهر في المستشفى عندما ذهبت إلى ألمانيا للعلاج بعد حادث أودى بحياة أهلها وأصابها بالشلل لتلازم كرسياً متحركاً .

من خلال تلك الكتابات والاستجوابات التي أجراها ناصر لبعض الشخصيات في الحي، ومن خلال السرد الذي يأتي بطريقة فنتازية على لسان أبي الرؤوس تتكشف لنا العوالم الداخلية لذلك الحي القذر المملوء بالقاذورات ومياه المجاري، والذي تعيش فيه شخصيات أمية جاهلة أو متعلمة مهزوزة البناء مجهولة النسب، فهناك يوسف المختفي والذي يشكّل الشخصية المتعلمة في الحي والذي لا يعرف من هو أبوه، وأمه حليمة صانعة الشاي التقليدي والتي ربته هو وعزة ابنة التاجر اليتيمة من الأم، وأبوها مزاحم التاجر الذي كان يهمين على التجارة في الحي ويسيطر على عمليات شراء العقارات والاستيلاء على أوقافها، قبل أن يصبح ميداناً لتنافس الشركات العملاقة، وأحمد ابن الزبال الذي أصبح يرافق الشخصيات الكبيرة المتنفذة خارج الحي والذي تزوج عائشة، وهناك العشّي وزوجته القوية وابنهما اللقيط تيس الأغوات والإمام الصومالي وابنه معاذ، ومسبب صاحب البستان ومهرب التحف الذي كان على علاقة بعزة، واختفى أثناء ظهور الجثة، والتركية التي تمتلك محلاً للخياطة تدير من خلاله علاقات مشبوهة برجال أعمال يسعون للاستيلاء على عقارات الحي وإغواء بناته، وناصر المحقق نفسه الذي عاش في الحي عقوداً طويلة، وحين ننتقل إلى القسم الثاني من الرواية نصادف شخصيات أخرى كثيرة .

ندرك من خلال كتابات يوسف العارف بتاريخ وجغرافية مكة المكرمة انزعاجه من زحف الأبراج العقارية والعمارات الحديثة على أحياء المدينة المقدسة، وطمسها لمعالمها وشواهد تاريخها لذلك السباق المحموم الذي يقوم به رجال الأعمال لاكتساح القطع الأرضية حول المسجد الحرام، كما نتعرف من خلالها إلى جوانب من حياة أبي الرؤوس وسكانه، ونتعرف من خلال رسائل عائشة إلى رؤيتها للحياة قبل وبعد سفرها للعلاج، وما تمثله حياتها الأولى في نظرها من كبت وانغلاق وتعتيم، وما انفتح أمامها من أفق للحرية ولطعم الحياة حين التقت عشيقها الألماني .

أما القسم الثاني من الرواية فيدور معظمه في إسبانيا حيث نلتقي بشخصيات جديدة هي نورة التي سنكتشف في النهاية أنها هي عزة وهي تسكن جناحاً في فندق فخم وتعيش في عهدة رجل الأعمال خالد الصبيحان الذي سوف نكتشف أنه مالك تلك الشركة القابضة العملاقة التي هجمت على أحياء مكة ومعالمها التاريخية تطمسها بأبراجها وفنادقها وأسواقها التجارية الحديثة، وكذلك رافع اللبناني الحارس الشخصي لنورة، ثم المرأة الاسبانية في الكنيسة في طليطلة، وشخصيات تاريخية كثيرة .

في هذا القسم يتركز السرد على البحث عن مفتاح ضائع، ونكتشف أن سبب وجود الصبيحان في إسبانيا هو البحث عن مفتاح ضائع تقول الأسطورة إنه قادر على فتح أبواب كل الدنيا، وأن جوزيف بن تقرلا هو من صنعه على نسق أبواب قدس الأقداس في سبأ أرض بلقيس، التي رحل إليها ليعيد نسج أساطير الحب التي تروى عنها، وعاد منها بأبواب مقدسة، جعلها في كنيسة بطليطلة، لتكون ملهمة العشاق والمبدعين، وصنع المفتاح الذي يفتح تلك الأبواب وكل الأبواب، لكنه مات على الباب الأخير قبل أن يفتحه، والحجاب الذي يضم رقوقاً عن حياة سلالة عربية يهودية سيكون من نسلها من يجلب الشر، ونكتشف أن الصبيحان هو من تلك السلالة .

الظاهر من رواية طوق الحمام أنها قصة اجتماعية بسبب ما تحاول أن تقدمه من تحليل للعلاقات الاجتماعية وربط لها بخلفياتها النفسية والفكرية، لكن رجاء عالم اتبعت في سردها تقنيات الرواية البوليسية خصوصاً في القسم الأول منها حيث اعتمدت في تقديم الأحداث على التحقيق الذي يجريه ناصر حول هوية الجثة، وأسباب موتها اعتماداً على المقالات والرسائل التي ذكرناها آنفاً، وعلى الاستجوابات التي امتلأ بها ذلك الجزء من الرواية، فمنذ البداية نجد أنفسنا أمام تلك الجثة التي لا تعرف صاحبتها، وتصبح كل الشخصيات متهمة بقتلها ما يذكّر بالعقد التقليدية في الروايات البولسية، لكن تقاطع الحياة الخاصة للشخصيات مع ذكريات طفولة ناصر قلب كيانه كمحقق صارم إلى شخصية حالمة تتبع سطور الرسائل بنهم بحثاً عما يشبع غرائزها الإنسانية التي انطمست لعقود تحت بدلة الشرطي، ما أضاف عنصراً درامياً إلى القصة وحولها إلى قصة اجتماعية، يضاف إلى ذلك أن وجود ثغرات كبيرة في التحقيق أضعف عناصر القصة البوليسية فيها، مثل كون المحقق لم يبدأ بنتائج تشريح الجثة لتحديد هوية صاحبتها، ولم تذكر تلك النتائج على طول الرواية، وكون جسد عائشة يحمل آثار العمليات التي أجريت لها بعد الحادثة وهي مصابة بالشلل، فمن السهل التفريق بين جثتها وجثة عزة، كذلك كون التحقيق لم يبدأ بمنزل أهل عزة لمعرفة ما إذا كانت مفقودة أم لا، ولم يستجوب أبوها إلا في مراحل متأخرة من التحقيق، ومثل تلك الثغرات كثيرة، ثم إن عنصر الحركية والمباغتة التي تنبني عليها الرواية البوليسية مفقود في طوق الحمام لأن جل اعتماد المحقق كان على الرسائل الغرامية التي لا تقدم أحداثاً أو معلومات متعلقة مباشرة بتلك الجثة، تجعل البحث يتطور ويندفع إلى الأمام، ما أفقدها عنصر الإثارة الذي هو عنصر أساسي في الرواية البوليسية .

تنوع في الخطابات:

حشدت رجاء عالم كل طاقاتها وخبراتها في هذه السردية لتقديم عمل يستفيد من كل أساليب القص الحديثة والقديمة، ويوظف كل أشكال الخطابات السردية المعروفة، ما يدل على تمكنها من تلك الأساليب التي تجلت في:

خطاب الراوي: تبدأ الأحداث براوٍ غير عادي يتحدث عن نفسه قائلاً أنا أبو الرؤوس برؤوسه المتعددة، أنا الزقاق الصغير، ويبدأ أبو الرؤوس بسرد خبر الجثة والتحقيق الذي بدأ حولها، لكن سرعان ما يتغير . تقوم طوق الحمام على سرد لراوٍ عارف بكل شيء، لكن سرعان ما ينتقل السرد إلى رواية أحداث متعلقة بطفولة المحقق في وادي محرم بجبال السراة في الطائف البعيدة عن أبي الرؤوس، فنحس بأن الراوي قد تغير، ويتأكد هذا التغير بحديث الراوي نفسه عن أبي الرؤوس بضمير الغائب في مواقع كثيرة من الرواية، وفي القسم الأخير منها يغيب أبو الرؤوس تماماً، فيقع القارئ في إشكالية عن سبب سرد الكاتبة لبعض الأحداث على لسان زقاق جماد في صلب رواية يفترض أنها واقعي، ومن غير تبرير واضح لذلك .

تعدد الأصوات: سمحت طريقة التحقيق البوليسي للرواية بإدخال تقنية تعدد الأصوات فكانت كل شخصية تتحدث عن نفسها وجوانب من حياتها أثناء التحقيق، غير أن إرادة الكاتبة لجعل تلك الشخصيات متهمة وتحجيم أدوارها في ذلك الجانب، وكونها تتحدث في جلسة تحقيق حد من حرية تلك الشخصيات في استبطان خلفياتها الاجتماعية وتداعياتها النفسية، وكان يمكن لحديثها أن يكون أكثر إثراء للعنصر الدرامي في الرواية لو تركت تلك الشخصيات على سجيتها وأعطيت مساحة كافية من البوح، والشخصية الوحيدة التي اقتربت من تلك المنطقة هي المحقق ناصر نفسه، لكن ذلك الاقتراب لم يستثمر حتى النهاية . وبقي شيئاً هامشياً على الأحداث وعلى صفته كمحقق .

الرسائل: لجأت رجاء عالم إلى تقنية الرسائل العادية والإلكترونية لتطوير أحداث الرواية والوقوف على أراء وطبائع شخصيتين من شخصيات الرواية، واحتلت تلك الرسائل جزءاً كبيراً جداً من الرواية، ويمكن اعتبارها أكثر الخطابات السردية حضوراً حتى إنها تضاهي في حضور الراوي، لكن الكاتبة تغالي في استخدام تلك الرسائل وتتبع بإسهاب مخل كثيراً تهويمات كاتبيها يوسف وعائشة وآرائهما حول الحب والحياة والناس وردودهما على رسائل أو استفسارات عشيقيهما، وغير ذلك من الأحاديث والحكايات المطولة التي تتخلل رسائل الحب، من غير فائدة واضحة في تطوير الحكاية طولياً أو أفقياً .

الوثيقة التاريخية: حين يفتح ناصر الحجاب الفضي في القسم الثاني من الرواية يقع على سفر من الرقائق الصغيرة القديمة، فيبدأ بقراءتها وتثبت الكاتبة بالنص ما جاء في تلك الرقاق التي تحكي حكاية اندساس سلالة يهود في قبيلة من قبائل نجد ونكتشف أن الصبيخان ينتمي لتلك السلالة حسب ما يثبته الرق، ولم يكن كل ما ورد في تلك الرقاق وارداً بهذا الحجم الكبير الذي أوقف مرات حركية الرواية، وأضفى عليها ركوداً .

الأسطورة: تستعين الكاتبة بالأسطورة من خلال ما روته اليهودية الاسبانية عن جدها جوزيف بن تقرلا، وعن الرجل اليمني الشيبي الذي جاء من اليمن بحثاً عن المفتاح لاستعادته، وقد استغرق معظم القسم الثاني من الرواية في تهيئة الظروف لنورة لتصل إلى تلك الكنيسة التي تحتفظ في قلبها بمعالم مسجد أندلسي، لتتلقى وحي الإلهام وتتشرب حواسها الجمال الذي سيجعل منها في النهاية رسامة تشكيلية عظيمة .

هذا إلى جانب كتب الأدب والتاريخ ومواقع الإنترنت التي ترد منها اقتباسات خصوصاً ضمن رسائل عائشة ومقالات يوسف، وتظهر كل تلك الخطابات والأساليب الجهد الكبير الذي بذلته الكاتبة في تأليف روايتها، وتمرسها بكل أنواع ومستويات الخطابات، فهناك الخطاب السردي المباشر وهناك التداعي الحر والخطاب التاريخي والديني والشاعري الرومانسي وغيرها، ترد في تدرجات بديعة وبلغة عربية فصيحة وسليمة نحواً وصرفاً، لولا بعض الأخطاء الطفيفة التي ترد في ثنايا بعض النصوص ولا يمكن لعمل بهذا الحجم أن يسلم من السهو، وكان ينبغي للعنوان أن يكون أطواق الحمام بدل طوق واحد أنسب للعدد .

المنظور الروائي

لكل من قصة البحث عن هوية الميتة وقصة الهجوم العمراني الحديث على المعالم التاريخية لمكة المكرمة ومحاولات يوسف للوقوف في وجهه سياقها المختلف عن الأخرى ولا ترتبطان إلا من خلال شخصية يوسف، ولو حذفت إحدى القصتين من الرواية لما أثر ذلك في الأخرى، ويمكن بشيء من التجوّز اعتبار قصة الميتة هي قصة المرأة المغيبة المكبوتة والمخفية في أقبية الصمت الغائرة، وقصة الهجمة العمرانية هي قصة النهب والسلب للهوية والذات، كما أن قصة نورة والمفتاح في القسم الثاني من الرواية يمكن أن تكون قصة مستقلة لولا النهاية التي ربطتها شكلياً بالأخرى، فجعلت نورة هي نفسها عزة المفقودة، وتقابل نورة المرأة الميتة بكونها رمزاً لانعتاق الجسد الأنثوي وما يمكن أن يبلغه ذلك الانعتاق من سمو إلى مراتب الإلهام وتلقي أسرار الحب والجمال الذي هو الشريعة الجامعة للبشرية قاطبة، وأما حكاية العرق اليهودي المندس في القبيلة العربية، وهي بدورها قصة مستقلة فترمز إلى تسلسل الشر في بقائه في كيان الإنسان، وفي الرواية أبنية قصصية أخرى كثيرة .

هذه السياقات المتعددة والاستقلالات في المتون الحكائية أرهقت رواية طوق الحمام بالتعرجات المختلفة، فوصلت إلى نهايتها منهكة متقطعة الخيوط، حيث إن الكثير من الشخصيات التي ظهرت في الجزء الأول من الرواية اختفت من دون أن نعرف ما هو سبب ظهورها ولماذا تختفي فجأة من غير مبرر، كما أن حجم البحث والتحقيق في الجزء الأول لا يسلم إلى نتيجة ويبقى السؤال معلقاً من دون أن نجد مواصلة له في الجزء الثاني إلى أن نصل إلى النهاية التي سنجد فيها الجواب، ورغم ذلك فإن النهاية التي وصلت إليها المتمثلة في نجاح شركة رجل الأعمال خالد الصبيحان في إقامة مشاريع إنشائية جديدة حول البيت الحرام، وظفر الصبيحان بالحجاب الذي يتضمن تاريخ السلالة اليهودية التي ستتملك مكة، وقبضه بمساعدة المحقق ناصر على يوسف الذي يحمل مفتاح الكعبة المفقود، واستئثاره بنورة عزة التي تلقت نور الحب والجمال وأصبحت رسامة مبدعة، في تلك النهاية ما يمكن أن يقدم صرخة في وجه الفساد المستشري، والتغوّل المادي الذي أصبح يطغى على كل شيء ولم يسلم منه أي منحى من مناحي الحياة الاجتماعية والروحية، وأصبح ينفث سمه في كل شيء، وهي نهاية أنقذت الرواية إلى حد ما، وجعلت لذلك الشتات خيطاً رابطاً مهماً بدا واهياً فإنه أعطاها شكلاً من أشكال التماسك، رغم أن القارئ عليه أن يمتلك صبراً وحافزاً خارجياً ليبلغها من خلال 566 صفحة، ولذلك يمكن أن نقول إن الجهد الروائي كان جباراً، وهو إضافة نوعية لتاريخ رجاء عالم الروائي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"