زراعة الكلى في العالم العربي وروادها

13:31 مساء
قراءة 6 دقائق

أول زرع لكلية في بلد عربي تم في الأردن في عام 1972 والمدهش ان المتبرع كان متوفياً دماغياً . وتوالت بعد ذلك برامج زراعة الكلى في بلدان عربية شتى خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي - إلا أنها كانت في مجملها من المتبرعين الأحياء الأقارب، وقلة من الدول العربية هي التي تمكنت من ارساء برامج زراعة للكلى من المتوفين وأبرز هذه الدول دون منازع هي المملكة العربية السعودية .

وقد حاز الدكتور الأمريكي مراي على جائزة نوبل في الطب في 1990 كجزاء لإجرائه أول عملية لزرع كلية في بوسطن في خمسينات القرن الماضي، وكان التحدي الاصعب في البداية هو ايجاد طرق لمنع الرفض الذي يلي الزرع كنتيجة حتمية مناعية طبيعية لدفع الأذى من ولوج جسم غريب أجنبي في الجسم .

وأضحت زراعة الكلى الآن عملية روتينية بعد تطوير عقاقير فاعلة مؤثرة في كبت مناعة الجسم وكذا صد الرفض إلا أن في فاعليتها تلك تكمن خطورتها ناحية تسهيلها لتفاقم الالتهابات وصعوبة كبح جماحها ما لم يتم معالجة ومتابعة المزروع له من قَبل من لهم فطنة وخبرة وبراعة في هذا المجال . ولا أعتقد أنكم ستستغربون ان اخبرتكم ان هناك علاقة استطرادية تراكمية متوازية بين الدخل القومي للبلدان وقدر النشاط في زراعة الكلى فيها تبعاً للتكلفة العالية لها .

والصورة المرفقة اخُذت بعد يوم واحدة من أول عملية لزراعة كلية في العالم العربي عام 1972 ويبدو في الصورة الأطباء العرب الثلاثة الذين شاركوا في هذا الإنجاز التاريخي ولكل من هم قصة ممتعة تلت هذا الحدث، فالدكتور طارق سحيمات (الذي زودني بهذه الصورة مشكوراً) صار مديراً لمدينة الملك حسين الطبية ووزيراً للصحة ثم وزيراً للمواصلات في الأردن، والدكتور داوود حنانية كان له السبق في أول عملية زراعة القلب في العالم العربي في عام 1986 وهو أيضاً صار مديراً لمدينة الملك حسين الطبية، وبعدها عضواً (شيخاً) في مجلس الأعيان الأردني، أما ثالثهما الدكتور سعيد الكرمي فقد هاجر إلى الولايات المتحدة حيث عمل رئيساً لقسم زراعة الكلى في جامعة جورج واشنطن حيث أجرى أكثر من 600 عملية زرع كلى ومن عجائب الأقدار أنه هو أيضاً احتاج لزراعة قلب له وتم ذلك له في عام 1995 .

وهذا يقودني إلى قصة ملفتة أخرى وهي قصة الأستاذ الدكتور عمر بليل الذي أجرى ثاني عملية لزرع كلية في العالم العربى وذلك في السودان - ومن المفارقات حقاً أن المريض وأخاه المتبرع له بأحد كليتيه كانا سعوديين سافرا من جدة إلى الخرطوم في وقت لم يكن إجراء مثل هذه العملية ممكناً في السعودية .

وللدكتور بليل قصة عجيبة اذ بُعث إلى بريطانيا للتخصص في جراحة الاعصاب إلا أنه أصيب بفشل كلوي وزُرعت له كلية تبرع بها له أخوه فقرر في الحال أن يغير تخصصه إلى زراعة الكلى وقد سرد تجربته الأليمة كمريض في كتاب مؤثر باللغة الانجليزية بعنوان حياتان اثنتان - ملحمة الموت لزارع كلى وكان العضو الثاني للفريق السوداني الزارع لثاني كلية في العالم العربي هو الأستاذ الدكتور حسن أبو عائشة الذي عين في ما بعد رئيس جامعة الرباط في الخرطوم وزير الدولة بوزارة الصحة .

والعجيب والملفت ان كثيراً من الأطباء العرب الذين شاركوا في أول عملية لزرع كلية في بلدانهم صار لهم باع طويل في السنين التي تلت العمليات، فمنهم من صار وزيراً أو وكيل وزارة أو رئيساً لجامعة وحصل ذلك في الأردن والسودان وسوريا والجزائر واليمن والعراق .

ولأهمية الدين الإسلامي في شعوب العالم العربي وكونه نبراساً وحاكماً لمجريات حياتهم وأساساً لسن القوانين في بلدانهم فكان لا بد من استصدار فتوى باباحة زرع الكلى شرعاً قبل أن يشرع الأطباء بفعل ذلك وهذا ما تم فعلاً في جل البلدان العربية كل على حدة وفي مؤتمرات مجمع الفقه الإسلامي . ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي أصدر بياناً بالغاً في الأهمية لتمكين الشروع في زرع الكلى من متوفين دماغياً يرى فيه أن موت الدماغ موت حقيقي ويساوي شرعاً تشخيص الموت بموجب وقوف الدورة الدموية عن دورانها وهي الطريقة التقليدية في التشخيص . وكان ذلك عقب دورة المجمع في الأردن في 1986 .

وللدكتور محمد علي البار بحوث وكتب مرجعية ومعتبرة مبنية على علمه الغزير في علوم الشرع والطب يركز فيها على الحيز المعرفي حيث تلتقي شؤون الطب الحديث والشريعة والأخلاقيات . وكان لبحوثه ولمحاضراته أبلغ الأثر الايجابي في دفع حركة زراعة الأعضاء في العالمين العربي والإسلامي .

وهناك محطات في قصة زراعة الكلى في العالم العربي أخال ذكرها يكون ذا فائدة ومتعة - ولذا سأعرج عليها ولو على عجالة .

لعل من أكثر الأطباء العرب شهرة في زراعة الكلى هو الأستاذ الدكتور فيصل عبدالرحيم شاهين المدير العام للمركز السعودي لزراعة الأعضاء الذي أصبح - تحت إدارته - أنجح مؤسسة لزراعة الأعضاء في العالمين العربي والإسلامي وأضحى صرحاً يُقتدى به في زرع الأعضاء وقد صار هذا ممكناً تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء السعودي الذي تبنى وتابع بشكل مركز ومستفيض نشاطات المركز السعودي لزراعة الأعضاء عدى كونه - أي الأمير- صاحب فكرة انشائه وراعي تطوره .

وفي الصورة المرفقة نرى فيصل شاهين يستلم درعاً تقديراً واعترافاً لإنجازاته من رئيس الجمعية العالمية لزراعة الأعضاء ومن الأستاذ الجراح التركي محمد هابيرال مدير جامعة باسكنت في أنقرة (الذي زودني بهذه الصورة مشكوراً) .

وهناك شخصية عربية أخرى لافتة لها بصماتها وإنجازاتها في مجالات شتى في الطب وأخلاقيات الطب وأقصد به الأستاذ العماني الدكتور عبدالله داعر ، وتعود اصول عائلته إلى الجنوب العربي- الذي أنشأ أقسام الزراعة في بلدين عربيين اثنين هما الإمارات العربية المتحدة (في عام 1985) وعمان (في عام 1988) .

وعبدالله داعر لا يزال يحمل الرقم القياسي الرسمي لأصغر متبرع للكلى وقد أتم ذلك في عمُان عندما وهبت سيدة هولندية كلى ولدها المولود (بعد حمل لم يدم لأكثر من 33 أسبوعاً) المتوفي لطفل عماني .

ويعمل عبدالله داعر الآن كأستاذ علوم الصحة العامة والجراحة في جامعة تورونتو بكندا وأصبح أشهر من نار على علم على المستوى العالمي في مجال الاخلاقيات الطبية واهتماماته البحثية تتجسد في التخفيف من الفروقات الصحية الهائلة بين الأمم من خلال تسخير علوم الحياة .

ثم لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن قصة زرع الكلى في العالم العربي حتى وإن كان ذلك بشكل لمحات أو على عجالة خارقة من دون التطرق إلى الإنجازات العظيمة لمركز المنصورة في مصر تحت قيادة الأستاذ الدكتور محمد غنيم الذي تمكن من إنشاء مركزٍ متميز لزراعة الكلى بكل ما توحي كلمة التميز من معنى .

وفي عام 2003 حصلت واقعة نادرة في عمليات زرع كلى في عدن إذ أجريت 10 عمليات متتالية وبنجاح (5 لاستئصال الكلى من المتبرعين و5 لزرعها في 5 مستقبلين) وقد تم ذلك كله في أقل من 20 ساعه وهذا يبقى رقماً قياسياً عالمياً .

وقد أجرى العمليات الجراح الأستاذ ندي حكيم الجراح البريطاني اللبناني المشهور عالمياً بمساعدة الجراح السوري الدكتور أنس زرقاء ومشاركة الدكتور حسين الكاف والدكتور عبدالله كرامة . وقد حضر الدكتور النمساوي روبرت فيتزجيرالد - خبير التخدير والعناية الفائقة - لتقييم حالة المرضى والمتبرعين قبل العملية وللقيام بتخديرهم أثناء العملية . وكان حاضراً أيضاً جراح الزراعة البولندي الأستاذ راوانسكي .

وكان من بين الذين شاركوا بتفان وتميز في نجاح العمليات الدكتورة انليز فيتزجيرالد الخبيرة في علم النفس والدكتور النمساوي فيلكس ستوكنهوبر استشاري أمراض الكلى . وأحد شواهد هذه التجربة الصحية الفريدة هي استحداث مصطلح عامل أو عنصر انيليز الذي تم نشره في إحدى الدوريات الطبية وكان هذا المصطلح نتاج ملاحظات طرف ثالث للعلاقة الانسانية المتقدمة التي تبلورت بين انيليز والمريضات والمتبرعات من دون استعمال لغة منطوقة بل استعمل عوضا عن ذلك لغة الإشارات والجسد والإيحاءات المشاعرية وتبادل الهدايا البسيطة ولكن ذات الدلالة والرمزية العميقتين وكل هذا عكس حالة من الروابط الانسانية والتقمص العاطفي الايجابى غاية في الروعة والجمال . ستجدون تفاصيل أكثر حول تاريخ زراعة الكلى في العالم العربي في مقال علمي للمؤلف نشرته له مجلة أمراض الكلى الأمريكية والمرجع هو:

Abdulla Ahmed Al Sayyari . MBA . MD(Lon) . FRCP The History of Renal Transplantation in

the Arab World: A View From Saudi Arabia Am J Kidney Dis 51:1033-1046 . ? 2008

عبدالله أحمد السياري

أستاذ الطب - جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"