يمثل سوق أمدرمان إرثاً تجارياً وتراثاً يمتد عبقه طويلا في تاريخ السودان فقد كان درب الأربعين المشهور الذي كانت تسلكه القوافل التجارية التي تقطع الفيافي والوديان من دارفور وكردفان مرورا بأمدرمان الشهيرة متجهة إلى خارج السودان سواء إلى مصر أو الحجاز، وحتى اللحظة لايزال اسم الشارع مشهورا. تاريخ مدينة امدرمان مرتبط أصلا بالثورة المهدية التي تقلدت سلطات الحكم في العام 1885م منزلة هزيمة تاريخية بالدولة العلوية التي كانت تحكم مصر حينها مستمدة شرعيتها من الباب العالي في اسطنبول إبان العهد العثماني.
قامت المهدية بتأسيس عاصمتها في القرية الصغيرة حينها وتركت الخرطوم التي كانت تمثل مركزا مهما للحكم العثماني، فقد كانت تشتمل على الدواوين الحكومية والمتاجر والأسواق المختلفة والملاهي وقصر ممتاز باشا الذي شيد من أنقاض مملكة سوبا المسيحية قصر الجمهورية حاليا تركت المهدية كل ذلك وأسست عاصمتها في امدرمان التي خططت سوقها الشهير، بل إن الدولة المهدية هي أول حكومة وطنية في السودان خصصت سوقا للنساء في السودان ويوجد السوق الحالي ضمن سوق امدرمان.
وفي استطلاع أجرته الخليج في هذا السوق يقول إدريس التوم وهو حلاق وأقدم المهنيين حاليا في سوق امدرمان لأن أول عهده به في العام ،1946 حيث عمل مع خاله الذي كان يمتلك واحدا من صالونين للحلاقة في سوق امدرمان الذي كان موجودا أصلا في المحطة الوسطى حاليا ويضم سوقاً للصياغ وسوقاً النساء وسوق العناقريب وملجأ الخضار القديمة ويمتد حتى شارع العدني والاسكلا وهي أهم المعالم المكونة لسوق امدرمان حينها، ويضيف أن الامتدادات الحالية للسوق جنوبا وتشتمل على عمارة محمد حسين والحرية تعتبر جديدة مقارنة بالمباني الأخرى إلا ان أصحابها كانوا من أشهر التجار الموجودين في السوق، مبيناً أن أشهر التجار من أمثال جورج مشرقي وهو من بلاد الشام وكان يعمل بائعا لليمون في سوق الموية إلا انه اجتهد وجمع قدرا كبيرا من الأموال وأسس مقهاه الشهير في سوق الموية ضمن مجموعة من المقاهي مثل مقهى يوسف الفكي واحمد خير وود الأغا وأشار إلى أن هذه المقاهي كانت تجمع القيادات السياسية والكتاب والشعراء والمسرحيين المشهورين مثل خالد أبو الروس والجاغريو من الشعراء المشهورين وإبراهيم العبادي واحمد المصطفى وبادي محمد الطيب وصلاح عبد السيد أبو صلاح وعبد الرحمن الريح.
يذكر التوم أن هذه المقاهي تقع بالقرب من نادي الخريجين حيث كانت تشهد إبان الحركة الوطنية في الأربعينات من القرن الماضي حشودا كبيرة من المواطنين والطلاب الذين كانوا ينطلقون من هذا المكان ويجوبون العاصمة مرددين الهتافات المعادية للاستعمار. ويوضح التوم أن أشهر التجار في سوق امدرمان خلال الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي كان من أسرة أبو العلا المشهورة التي امتدت أعمالها منذ فترة طويلة إلى مصر وأسرة البرير واحمد حسين والأمين عبد الرحمن وهؤلاء هم من السودانيين، أما من التجار الأجانب فقد اشتهر التجار الهنود مثل لاليت وشاشاتي وغيرهم. وكانوا جميعا من كبار الموردين والمصدرين وخلال الفترة التي عقبت استقلال السودان شهد السوق هجرة كبيرة للتجار الهنود والشوام وغيرهم. ويمضي بنا التوم بالطواف التاريخي، ويذكر أن زفة المولد النبوي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وإلى وقت قريب كانت تنطلق من مركز السوق وتضم التجار والصناعية المختلفين من صاغة وحدادين ونقاشين وخضرجية وغيرهم لتطوف السوق يتقدمها السواري ومصحوبة بالموسيقا ورجالات الطرق الصوفية لتنتهي في ميدان العرضة، كما كانت المدينة تضم أيضا بعض الملاهي مثل آر ون وعلى كيفك وابو ستولو وكانت كلها في المحطة الوسطى إلا أنها أغلقت في بداية الثمانينات من القرن الماضي. ويضم السوق أيضاً أشهر العطارين في كل السودان من بينهم احمد عثمان الرباطابي وهو أشهرهم على الإطلاق.
ويقول صلاح احمد محمد عثمان وهو أحد التجار في سوق أمدرمان إن الأمين عبد الرحمن وهو أحد التجار المشهورين يعتبر الأب الروحي لمهنة الصياغة في السودان وأن معظم سوق الصاغة الموجود الآن بامدرمان كان ملكا له خاصة وأن الأمين كان يعمل بجانب مهنة الصياغة في تجارة العقارات والتجارة العمومية الأخرى وبيّن أن والده احمد محمد عثمان وهو أحد الصاغة الذين كانوا يعملون في السوق يعتبر أول من قام بتطوير المهنة في السودان باستخدام الآلات المختلفة لصناعة المشغولات الذهبية من العمل بآلات الكور وبابور الجاز إلى ماكينة التصنيع والمكبس. ويضيف أن والده كان يستخدم ذلك لتصنيع الصناعات الذهبية المتعددة مثل الفرج الله وهي عبارة عن قطعة ذهبية كبيرة مثل الميدالية وتصنع في شكل عقد يضم مجموعة من الفرج الله لترتديه العرائس، بجانب ذلك كان يتم تصنيع الكيلوباترا وهي مكونة من نصف جنيه سوداني لكنها مقاس أصغر من الفرج الله وترتديه العروس أيضا، وأضاف أن الجنيهات الذهبية كانت عبارة عن شكلين الجورجي والملكة فكتوريا حيث يضم العقد الواحد مجموعة منها ويسمى أيضا باللبدة أو العقد. ويقول إن صناعة المشغولات الذهبية في الفترات السابقة كانت مطلوبة بشدة إلا ان ظهرت المصنوعات الحديثة المستوردة من الخليج والسعودية، مشيراً إلى أن السوق بدأ يفقد بعض بريقه القديم بسبب الضرائب والرسوم الباهظة التي تفرضها السلطات على التجار مما دفع الكثيرين منهم إلى الهجرة صوب مصر والعمل هناك.