الخلافات بين الزوجين هي أس المشاكل بين الأهل، والسبب البغيض لتقاطع الأرحام، والعبوة الناسفة لكل صنوف صلة القرابة.
إذ من المستبعد أن تكون هناك علاقات مودة بين الأبناء وذوي المحارم وأقارب الزوجة أو الزوج في جو المشاحنات بين الزوجين.. فرذاذ الخلافات الزوجية سوف يطول الأولاد في القريب أو البعيد، وسوف يصيب علاقات الأخوة بالشقاء ويدفع أهل المرأة وأهل الرجل إلى الشقاق والتنابذ، وربما التردد على المحاكم!
والسؤال: كيف يمكن أن تكون الحياة الزوجية بوابة لصلة الرحم؟ وما خطر الخلافات الأسرية على توريث الأولاد مشاعر البغض أو التقاطع؟ وماذا يفعل الزوجان عند التوافق وعند الخلاف لتقوية صلة الأرحام وتجنب كل أشكال التقاطع بين الأقارب؟!
الدكتورة رجاء حزين، أستاذة الحديث بجامعة الأزهر، تؤكد أن صلة الرحم لا يمكن أن تتحقق في ظل وجود علاقة متوترة بين الرجل وزوجته، لأنه في ظل هذا التوتر لن تكون هناك بيئة صالحة لتبادل مشاعر المودة بين الأقارب وتبادل الزيارات والتهادي والسؤال والتعاون مع الأهل في الشدائد التي يقع فيها أهل القربى، أو غرس مشاعر الحب عند الأولاد تجاه الأعمام، والأخوال وغيرهم من الأهل.
بل إن التوتر بين الزوجين سوف يخلق مع الأسف بيئة فاسدة يكثر فيها الغمز واللمز والقيل والقال والشكوى والتجسس والعيب في الآخرين، كما قد يعمل الزوجان، من حيث يدريان أو لا يدريان، على غرس مشاعر الكراهية للأقارب وتحميلهم أسباب القطيعة!
والواقع المؤسف يقرر أن الأولاد والآباء والإخوة وغيرهم من أهل الرحم والنسب كثيراً ما يقعون ضحية الخلافات الزوجية، وأيضا كثيراً ما يصنعون هم هذه الخلافات ثم يكتوون هم بنيرانها فيما بعد، وهي تجربة مريرة نشاهدها صباح مساء ويعيش في نارها كثير من الأسر المسلمة.
أخطاء أسرية
وبرؤية شرعية واجتماعية تضع الدكتورة رجاء يدها على عدد من الأخطاء التي تقع فيها بعض الأسر عندما تتناثر أخبار الخلافات الزوجية وتؤدي للفتنة بين الأقارب وذويهم.
من ذلك، كثرة الخلافات أمام الأولاد، خاصة إذا كان بعض الأهل، مثل الحموات، طرفاً في صناعة الأزمة أو حلها، إذ ماذا نتوقع لمشاعر الابن عندما يعيب الوالد أو يسب والد زوجته الذي هو جده، أو عندما تعيب الزوجة أو تسب والدة زوجها التي هي جدته؟! ومن الناحيتين الشرعية والتربوية يجب إبعاد الأبناء عن أجواء المشاحنات.
بل يجب أن يرى الصغير الهدوء وحسن الخلق والبشاشة في الوجه وكظم الغيظ والعفو بين الزوجين عند النقاش، وفي الحديث: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله».
وفي تصوري أن الشجار بين الزوجين هو المقدمة الأولى للعقوق، بل أكاد أجزم بأنه يأخذ بيد الولد نحو عقوق الوالدين، وهجر الأقارب، وهو المعنى الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال فيما يرويه ابن حبان: «رحم الله والداً أعان ولده على بره».
ومن الأخطاء الأسرية في هذا الموضوع كثرة شكوى الرجل من زوجته أو كثرة شكوى المرأة من زوجها، وهي شكوى ممقوتة لأنها توغر صدور الأولاد، كما تغرس عدم الحب بين أهل الزوجين، فضلاً عن أنها قد تجعل الزوج أو الزوجة يألفان وربما يدمنان الشكوى من دون البحث عن العلاج النافع وإرضاء الآخر.
وقد توسع الإسلام في علاج هذا الخطأ بشكل واضح، فهو في الأساس حدد حقوق كل طرف على الآخر، ومن ثم عند الالتزام بهذه الحقوق فلن تكون هناك مصادر للشقاق، ويكفي في هذا ما أجمله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «إن أفضل ما للرجل، بعد تقوى الله، امرأة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته (حفظته) في ماله وعرضه».
وعند حدوث الخلاف ربَّى الإسلام في المرأة والرجل التصبر والتحمل وسعة الصدر والاستعانة بالأقارب لسد منافذ التقاطع، والقاعدة الشرعية كما يقرر القرآن: «وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً»، وفي الحديث: «لا يفرك أي لا يبغض مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر».
عادة ذميمة
وتضيف: ليتذكر المؤمن أن خدمته لدينه ودنياه تبدأ بحسن معاملته لأهله وزوجته وحسن تربية أولاده على البر بالأقارب والإحسان لذوي الأرحام، وفي هذا يحضرني حديث له دلالات رائعة هو قوله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي». وكأن خيرية الرسول للإنسانية وكذا خيرية الدين والتدين والمتدينين للعالم كله تبدأ من خيرية الإنسان لزوجته وأهل بيته.
فواجب الإنسان، خاصة الزوجة، أن تقلع عن عادة الثرثرة بالشكوى، وأن تحفظ غيبة زوجها، وأن تؤمن أن البيوت أسرار، وأنها بكل شكوى تنقلها عن زوجها للآخرين تكشف سرّ بيتها وتفضح ستره، كما أنها تفتح المجال لكراهية الأقارب وتدخلاتهم البغيضة فضلاً عن أنها تغضب الخالق سبحانه وتعالى.
وكثيراً ما لاحظت تضيف الدكتورة رجاء حزين أن الشقاق بين الأقارب يبدأ بخلافات النسب والزواج، وأن معظم الخلافات الزوجية التي تنفجر على مستوى واسع تكون بسبب الفلوس والإنفاق أو الميراث وغيرها من المعاملات المادية.
والأمر المؤكد أن كل فلوس الدنيا لا تساوي علاقة حميمية بين زوجين، أو زيارة ودية لأحد الأشقاء، أو سؤالاً حانياً من العم أو الخال.
والمؤكد أيضاً أن حكاية المسؤوليات المادية بين الزوجين بشكل خاص وبين الأهل بشكل عام محددة في ضوء الضوابط والأحكام الشرعية والمسؤوليات الاجتماعية، ولكنها قبل هذا مضبوطة بالضابط الإنساني، والإسلامي العام، وهو قوله تعالى: «لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدر عليه رزقُه فليُنفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً».
وعليه لا يجوز لأحد الأطراف أن يجعل الإنفاق المادي مادة للقيل والقال، وتدخلات الحموات بشكل محدد، لأن التجربة أثبتت أن خروج سر من بيت الزوجية يعني بداية مرحلة تقاطع الأرحام وتناحر الأقارب وسوء العشرة بين الجميع!
..«لتعارفوا»
من جانبه يؤكد الدكتور عبد الفتاح الشيخ، أستاذ الفقه الإسلامي، عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، أن الزواج مشروع في الأصل لتوسيع دائرة المعارف الإنسانية وأن هذا الرباط الغليظ من أعظم وسائل التقارب والتعارف وتكوين الأسر والمجتمع المتحاب، وهذا واضح في الإسلام عندما عدّد الأقارب وذوي الأرحام، وعندما حرم الزواج من المحارم حتى تتسع وسائل التعارف الإنسانية وتبتعد عن مصادر الشقاق كما هو واضح في المبدأ الشرعي العام: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
ولهذا لا يجوز أبداً أن تكون صلة الزواج مدعاة لهوان صلة الرحم على بعض ذوي الأرحام!
معنى آخر، أحب أن أشدد عليه، هو أنه في ظل وجود بعض الخلافات الزوجية لا يجوز منع الأقارب من زيارة البيوت أو تبادل المشاعر والأحاسيس، إذ من العيب مثلاً أن يمنع الرجل والدة زوجته من زيارة بيت ابنتها بحجة وجود سوء فهم بينهما. كما لا يجوز منع الابن مثلاً من زيارة جده لأن الزوج على خلاف مع زوجته، كما أن وقوع أبغض الحلال ليس مبرراً لتقاطع الأقارب.
ويفرق الدكتور عبد الفتاح الشيخ بين منع الزيارات المرفوض شرعاً، وبين ضبط زيارة الأقارب لبيت الزوجية المطلوب شرعاً، فغير المحارم لا يجوز لهم زيارة البيت في غيبة رجل البيت، لأنهم وإن كانوا أقارب بحكم النسب إلا أنهم أجانب في صلتهم بالزوجة أما المحارم مثل الأب والأخ فلهم أن يزوروا بيت الزوجة في غيبة الرجل، ولكن عند حدوث حساسيات معينة فلا بأس أن ينتظروا الزوج حتى لا تصبح الزيارة وسيلة لزيادة الحساسية.
ومن واجبات الرجل أن يعرف من يزور بيته، وأن يمنع من لا يرعب فيه، وإن لم يفعل هذا صار مقصّراً في حق نفسه وبيته وفي حق ربه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «فحقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون»، وهو معنى عام لا فرق فيه حتى بين المحرم وغير المحرم.
وفي الحديث أيضاً: «ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً»: «الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر»، قال الصحابة: أما مدمن الخمر فقد عرفناه، فمن الديوث؟ قال عليه السلام: الذي لا يبالي من دخل على أهله، قالوا: فمن الرجلة من النساء؟ قال: «التي تشبه الرجال».
وفي الحديث إشارات إلى أن من حق الرجل السماح بدخول بيته أو المنع، كما أن الحديث يحذر من طغيان شخصية المرأة في مثل هذه المواقف، حيث ربط بين ذلك الرجل الضعيف الذي لا يدقق في من يدخل بيته وقد يكون مصدراً للقلاقل، وبين تلك المرأة «المسترجلة» التي قد لا تعبأ بمشاعر زوجها!
شياطين الإنس
ويتوقف الدكتور الشيخ عند حالة شاذة بين الزوجين، تعد أسوأ حالات الشقاق الأسري وتقاطع ذوي الأرحام، ويعني بها حالة الطلاق!
ففي تلك اللحظة التي يرتكب فيها أبغض الحلال ويهتز له عرش الرحمن، تتدخل شياطين الأقارب لتشتعل الأسرة ناراً، وكأنه لم يكن بينهم ميثاق غليظ، وعشرة وأولاد وصلة نسب لن تقطعها حالة الطلاق، فعند حدوثه لن يلغى الابن أن له أخوالاً، أو ترفض البنت أن والدة والدها هي جدتها!
إن أسوأ ما قد يترتب على الطلاق ليس فك الارتباط في ذاته، بل عندما تعمل المرأة على تعبئة نفوس أولادها ضد والدهم، أو تحقير الزوج أهل زوجته، أو وقوع التناحر وربما اللجوء إلى المحاكم بسبب بعض النقود أو العقارات أو الصالون الخشبي القديم!
ومن هنا وجدنا الإسلام يحيط هذه اللحظة الفارقة بكل معاني الإيمان والإيثار والتضحية ومقاومة الأنانية والشح، كما يشدد على العدل والحق والعفو واحترام الدم والعرض والنسب والرحم الذي كان وسوف يبقى كثير من آثاره في النفس وفي الصلات الإنسانية والحقوق المادية والاجتماعية.