صلة الرحم.. الضحية الأولى للخلافات الزوجية

شقاق الوالدين يدفع أولادهما نحو العقوق
03:05 صباحا
قراءة 7 دقائق

الخلافات بين الزوجين هي‮ ‬أس المشاكل بين الأهل،‮ ‬والسبب البغيض لتقاطع الأرحام،‮ ‬والعبوة الناسفة لكل صنوف صلة القرابة‮.‬
إذ من المستبعد أن تكون هناك علاقات مودة بين الأبناء وذوي‮ ‬المحارم وأقارب الزوجة أو الزوج في‮ ‬جو المشاحنات بين الزوجين‮.. ‬فرذاذ الخلافات الزوجية سوف‮ ‬يطول الأولاد في‮ ‬القريب أو البعيد،‮ ‬وسوف‮ ‬يصيب علاقات الأخوة بالشقاء ويدفع أهل المرأة وأهل الرجل إلى الشقاق والتنابذ،‮ ‬وربما التردد على المحاكم‮!‬
والسؤال‮: ‬كيف‮ ‬يمكن أن تكون الحياة الزوجية بوابة لصلة الرحم؟ وما خطر الخلافات الأسرية على توريث الأولاد مشاعر البغض أو التقاطع؟ وماذا‮ ‬يفعل الزوجان عند التوافق وعند الخلاف لتقوية صلة الأرحام وتجنب كل أشكال التقاطع بين الأقارب؟‮!‬
الدكتورة رجاء حزين،‮ ‬أستاذة الحديث بجامعة الأزهر،‮ ‬تؤكد أن صلة الرحم لا‮ ‬يمكن أن تتحقق في‮ ‬ظل وجود علاقة متوترة بين الرجل وزوجته،‮ ‬لأنه في‮ ‬ظل هذا التوتر لن تكون هناك بيئة صالحة لتبادل مشاعر المودة بين الأقارب وتبادل الزيارات والتهادي‮ ‬والسؤال والتعاون مع الأهل في‮ الشدائد التي‮ ‬يقع فيها أهل القربى،‮ ‬أو‮ ‬غرس مشاعر الحب عند الأولاد تجاه الأعمام،‮ ‬والأخوال وغيرهم من الأهل‮.‬
بل إن التوتر بين الزوجين سوف يخلق مع الأسف بيئة فاسدة‮ ‬يكثر فيها الغمز واللمز والقيل والقال والشكوى والتجسس والعيب في‮ ‬الآخرين،‮ ‬كما قد‮ ‬يعمل الزوجان،‮ ‬من حيث‮ ‬يدريان أو لا‮ ‬يدريان،‮ ‬على‮ ‬غرس مشاعر الكراهية للأقارب وتحميلهم أسباب القطيعة‮!‬
والواقع المؤسف‮ ‬يقرر أن الأولاد والآباء والإخوة وغيرهم من أهل الرحم والنسب كثيراً ما‮ ‬يقعون ضحية الخلافات الزوجية،‮ ‬وأيضا كثيراً ما‮ ‬يصنعون هم هذه الخلافات ثم‮ ‬يكتوون هم بنيرانها فيما بعد،‮ ‬وهي‮ ‬تجربة مريرة نشاهدها صباح مساء ويعيش في‮ ‬نارها كثير من الأسر المسلمة‮.‬

أخطاء أسرية

وبرؤية شرعية واجتماعية تضع الدكتورة رجاء‮ ‬يدها على عدد من الأخطاء التي‮ ‬تقع فيها بعض الأسر عندما تتناثر أخبار الخلافات الزوجية وتؤدي‮ ‬للفتنة بين الأقارب وذويهم‮.‬
من ذلك،‮ ‬كثرة الخلافات أمام الأولاد،‮ ‬خاصة إذا كان بعض الأهل،‮ ‬مثل الحموات،‮ ‬طرفاً في‮ ‬صناعة الأزمة أو حلها،‮ ‬إذ ماذا نتوقع لمشاعر الابن عندما‮ ‬يعيب الوالد أو‮ ‬يسب والد زوجته الذي‮ ‬هو جده،‮ ‬أو عندما تعيب الزوجة أو تسب والدة زوجها التي‮ ‬هي‮ ‬جدته؟‮!‬ ومن الناحيتين الشرعية والتربوية يجب إبعاد الأبناء عن أجواء المشاحنات.
‮ ‬بل‮ ‬يجب أن‮ ‬يرى الصغير الهدوء وحسن الخلق والبشاشة في‮ ‬الوجه وكظم الغيظ والعفو بين الزوجين عند النقاش،‮ ‬وفي‮ ‬الحديث‮: «‬إن الله رفيق‮ ‬يحب الرفق في‮ ‬الأمر كله‮».‬
وفي‮ ‬تصوري‮ ‬أن الشجار بين الزوجين هو المقدمة الأولى للعقوق،‮ ‬بل أكاد أجزم بأنه يأخذ بيد الولد نحو عقوق الوالدين،‮ ‬وهجر الأقارب،‮ ‬وهو المعنى الذي‮ ‬حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال فيما‮ ‬يرويه ابن حبان‮: «‬رحم الله والداً أعان ولده على بره‮».‬
ومن ‬الأخطاء الأسرية في‮ ‬هذا الموضوع كثرة شكوى الرجل من زوجته أو كثرة شكوى المرأة من زوجها،‮ ‬وهي‮ ‬شكوى ممقوتة لأنها توغر صدور الأولاد،‮ ‬كما تغرس عدم الحب بين أهل الزوجين،‮ ‬فضلاً عن أنها قد تجعل الزوج أو الزوجة‮ ‬يألفان وربما‮ ‬يدمنان الشكوى من دون البحث عن العلاج النافع وإرضاء الآخر‮.‬
وقد توسع الإسلام في‮ ‬علاج هذا الخطأ بشكل واضح،‮ ‬فهو في‮ ‬الأساس حدد حقوق كل طرف على الآخر،‮ ‬ومن ثم عند الالتزام بهذه الحقوق فلن تكون هناك مصادر للشقاق،‮ ‬ويكفي‮ ‬في‮ ‬هذا ما أجمله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال‮: «‬إن أفضل ما للرجل،‮ ‬بعد تقوى الله،‮ ‬امرأة صالحة،‮ ‬إن نظر إليها سرته،‮ ‬وإن أمرها أطاعته،‮ ‬وإن أقسم عليها أبرته،‮ ‬وإن‮ ‬غاب عنها نصحته‮ ‬(حفظته‮) ‬في‮ ‬ماله وعرضه‮».‬
وعند حدوث الخلاف ربَّى الإسلام في‮ ‬المرأة والرجل التصبر والتحمل وسعة الصدر والاستعانة بالأقارب لسد منافذ التقاطع،‮ ‬والقاعدة الشرعية كما‮ ‬يقرر القرآن‮: «‬وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً‮»‬،‮ ‬وفي‮ ‬الحديث‮: «‬لا‮ ‬يفرك أي‮ ‬لا‮ ‬يبغض مؤمن مؤمنة،‮ ‬إن كره منها خُلقاً رضي‮ ‬منها آخر‮».‬

عادة ذميمة

وتضيف: ليتذكر المؤمن أن خدمته لدينه ودنياه تبدأ بحسن معاملته لأهله وزوجته وحسن تربية أولاده على البر بالأقارب والإحسان لذوي‮ ‬الأرحام،‮ ‬وفي‮ ‬هذا‮ ‬يحضرني‮ ‬حديث له دلالات رائعة هو قوله صلى الله عليه وسلم‮: «‬خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي‮». ‬وكأن خيرية الرسول للإنسانية وكذا خيرية الدين والتدين والمتدينين للعالم كله تبدأ من خيرية الإنسان لزوجته وأهل بيته‮.‬
فواجب الإنسان،‮ ‬خاصة الزوجة،‮ ‬أن تقلع عن عادة الثرثرة بالشكوى،‮ ‬وأن تحفظ‮ ‬غيبة زوجها،‮ ‬وأن تؤمن أن البيوت أسرار،‮ ‬وأنها بكل شكوى تنقلها عن زوجها للآخرين تكشف سرّ بيتها وتفضح ستره،‮ ‬كما أنها تفتح المجال لكراهية الأقارب وتدخلاتهم البغيضة فضلاً عن أنها تغضب الخالق سبحانه وتعالى‮.‬
وكثيراً ما لاحظت تضيف الدكتورة رجاء حزين أن الشقاق بين الأقارب‮ ‬يبدأ بخلافات النسب والزواج،‮ ‬وأن معظم الخلافات الزوجية التي‮ ‬تنفجر على مستوى واسع تكون بسبب الفلوس والإنفاق أو الميراث وغيرها من المعاملات المادية‮.‬
والأمر المؤكد أن كل فلوس الدنيا لا تساوي‮ ‬علاقة حميمية بين زوجين،‮ ‬أو زيارة ودية لأحد الأشقاء،‮ ‬أو سؤالاً حانياً من العم أو الخال‮.‬
والمؤكد أيضاً أن حكاية المسؤوليات المادية بين الزوجين بشكل خاص وبين الأهل بشكل عام محددة في‮ ‬ضوء الضوابط والأحكام الشرعية والمسؤوليات الاجتماعية،‮ ‬ولكنها قبل هذا مضبوطة بالضابط الإنساني،‮ ‬والإسلامي‮ ‬العام،‮ ‬وهو قوله تعالى‮: «‬لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدر عليه رزقُه فليُنفق مما آتاه الله لا‮ ‬يكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها سيجعل الله بعد عسرٍ‮ ‬يسراً‮».‬
وعليه لا‮ ‬يجوز لأحد الأطراف أن‮ ‬يجعل الإنفاق المادي‮ ‬مادة للقيل والقال،‮ ‬وتدخلات الحموات بشكل محدد،‮ ‬لأن التجربة أثبتت أن خروج سر من بيت الزوجية يعني بداية مرحلة تقاطع الأرحام وتناحر الأقارب وسوء العشرة بين الجميع‮!‬

..«لتعارفوا»

من جانبه‮ ‬يؤكد الدكتور عبد الفتاح الشيخ،‮ ‬أستاذ الفقه الإسلامي،‮ ‬عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر،‮ ‬أن الزواج مشروع في‮ ‬الأصل لتوسيع دائرة المعارف الإنسانية وأن هذا الرباط الغليظ من أعظم وسائل التقارب والتعارف وتكوين الأسر والمجتمع المتحاب،‮ ‬وهذا واضح في‮ ‬الإسلام عندما عدّد الأقارب وذوي‮ ‬الأرحام،‮ ‬وعندما حرم الزواج من المحارم حتى تتسع وسائل التعارف الإنسانية وتبتعد عن مصادر الشقاق كما هو واضح في‮ ‬المبدأ الشرعي‮ ‬العام‮: «‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم‮».‬
ولهذا لا‮ ‬يجوز أبداً أن تكون صلة الزواج مدعاة لهوان صلة الرحم على بعض ذوي‮ ‬الأرحام‮!‬
معنى آخر، أحب أن أشدد عليه،‮ ‬هو أنه في‮ ‬ظل وجود بعض الخلافات الزوجية لا‮ ‬يجوز منع الأقارب من زيارة البيوت أو تبادل المشاعر والأحاسيس،‮ ‬إذ من العيب مثلاً أن‮ ‬يمنع الرجل والدة زوجته من زيارة بيت ابنتها بحجة وجود سوء فهم بينهما‮. ‬كما لا‮ ‬يجوز منع الابن مثلاً من زيارة جده لأن الزوج على خلاف مع زوجته‮، كما أن وقوع أبغض الحلال ليس مبرراً لتقاطع الأقارب.
ويفرق الدكتور عبد الفتاح الشيخ بين منع الزيارات المرفوض شرعاً،‮ ‬وبين ضبط زيارة الأقارب لبيت الزوجية المطلوب شرعا‮ً، فغير المحارم لا‮ ‬يجوز لهم زيارة البيت في‮ ‬غيبة رجل البيت،‮ ‬لأنهم وإن كانوا أقارب بحكم النسب إلا أنهم أجانب في‮ ‬صلتهم بالزوجة‮ أما المحارم مثل الأب والأخ فلهم أن‮ ‬يزوروا بيت الزوجة في‮ ‬غيبة الرجل،‮ ‬ولكن عند حدوث حساسيات معينة فلا بأس أن‮ ‬ينتظروا الزوج حتى لا تصبح الزيارة وسيلة لزيادة الحساسية‮.‬
ومن واجبات الرجل أن‮ ‬يعرف من‮ ‬يزور بيته،‮ ‬وأن‮ ‬يمنع من لا‮ ‬يرعب فيه،‮ ‬وإن لم‮ ‬يفعل هذا صار مقصّراً في‮ ‬حق نفسه وبيته وفي‮ ‬حق ربه،‮ ‬ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «‬فحقكم عليهن ألا‮ ‬يوطئن فرشكم من تكرهون ولا‮ ‬يأذن في‮ ‬بيوتكم لمن تكرهون‮»‬،‮ ‬وهو معنى عام لا فرق فيه حتى بين المحرم وغير المحرم‮.‬
وفي‮ ‬الحديث أيضاً‮: «‬ثلاثة لا‮ ‬يدخلون الجنة أبدا‮ً»: ‬«الديوث،‮ ‬والرجلة من النساء،‮ ‬ومدمن الخمر»،‮ ‬قال الصحابة‮: ‬أما مدمن الخمر فقد عرفناه،‮ ‬فمن الديوث؟ قال عليه السلام‮: ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يبالي‮ ‬من دخل على أهله،‮ قالوا: ‬فمن الرجلة من النساء؟ قال: «التي‮ ‬تشبه الرجال‮».‬
وفي‮ ‬الحديث إشارات إلى أن من حق الرجل السماح بدخول بيته أو المنع،‮ ‬كما أن الحديث‮ ‬يحذر من طغيان شخصية المرأة في‮ ‬مثل هذه المواقف،‮ ‬حيث ربط بين ذلك الرجل الضعيف الذي‮ ‬لا‮ ‬يدقق في‮ ‬من‮ ‬يدخل بيته وقد‮ ‬يكون مصدراً للقلاقل،‮ ‬وبين تلك المرأة‮ «‬المسترجلة‮» ‬التي‮ ‬قد لا تعبأ بمشاعر زوجها‮!‬

شياطين الإنس

ويتوقف الدكتور الشيخ عند حالة شاذة بين الزوجين، ‬تعد أسوأ حالات الشقاق الأسري‮ ‬وتقاطع ذوي‮ ‬الأرحام،‮ ‬ويعني‮ ‬بها حالة الطلاق‮!‬
ففي‮ تلك اللحظة التي‮ ‬يرتكب فيها أبغض الحلال ويهتز له عرش الرحمن،‮ ‬تتدخل شياطين الأقارب لتشتعل الأسرة ناراً،‮ ‬وكأنه لم‮ ‬يكن بينهم ميثاق‮ ‬غليظ،‮ ‬وعشرة وأولاد وصلة نسب لن تقطعها حالة الطلاق،‮ ‬فعند حدوثه لن‮ ‬يلغى الابن أن له أخوالاً،‮ ‬أو ترفض البنت أن والدة والدها هي‮ ‬جدتها‮!‬
إن أسوأ ما قد‮ ‬يترتب على الطلاق ليس فك الارتباط في‮ ‬ذاته،‮ ‬بل عندما تعمل المرأة على تعبئة نفوس أولادها ضد والدهم،‮ ‬أو تحقير الزوج أهل زوجته،‮ ‬أو وقوع التناحر وربما اللجوء إلى المحاكم بسبب بعض النقود أو العقارات أو الصالون الخشبي‮ ‬القديم‮!‬
ومن هنا وجدنا الإسلام‮ ‬يحيط هذه اللحظة الفارقة بكل معاني‮ ‬الإيمان والإيثار والتضحية ومقاومة الأنانية والشح،‮ ‬كما‮ ‬يشدد على العدل والحق والعفو واحترام الدم والعرض والنسب والرحم الذي‮ ‬كان وسوف‮ ‬يبقى كثير من آثاره في‮ ‬النفس وفي‮ ‬الصلات الإنسانية والحقوق المادية والاجتماعية.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"