التربية النبوية لا تقف عند الوصايا والتوجيهات التي تحث على الأخلاق الراقية لتوثيق العلاقات بين الناس فحسب.. بل هذه التربية تتضمن هيئة المسلم الخارجية أيضاً وسلوكه الشخصي فيما يتعلق بالنظافة والأناقة وحسن الهندام.. وهذا ما وجدناه في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سلوكه وتوجيهاته التي تجسد مجمل أخلاقه.
الأناقة وحسن الهندام- كما يقول د. علي جمعة، مفتي مصر السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر- ليست كما يظن البعض من مظاهر التفاخر والتباهي التي حذر منها الإسلام، بل هي سلوك وأدب نبوي كريم، فكل تعاليم الإسلام تحث المسلم على أن يرتدي أنظف الثياب وأكثرها جمالا وجاذبية.. فالله سبحانه وتعالى قد أمرنا في كتابه العزيز بأن نتزين بأفضل صور الزينة، وأن نرتدي أفضل ثيابنا عندما نذهب إلى المساجد لنؤدي عبادة الصلاة فقال سبحانه: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد» ورفض الحق سبحانه سلوك هؤلاء المتنطعين الذين يحرمون الزينة والجمال فقال عز وجل: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق».
المثل الأعلى
ورسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو مثلنا الأعلى- كان يعني عناية بالغة بنظافة بدنه وثوبه ومكانه، وكان يهتم بحسن هيئته وطيب رائحته، ولذلك انجذبت إليه القلوب لكمال مظهره كما التفت حوله لجمال خلقه وسمو تعاليمه.. وقد جاء في عدد من الروايات الموثقة أنه صلى الله عليه وسلم كان يتجمل للوفود حين يلقاهم، كما كان يتجمل للقاء ربه في صلاته.. يقول عنه أنس رضي الله عنه كما جاء في الحديث الصحيح: «ما شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم».. ولا عجب في ذلك، فهو القائل: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس».
من هنا فإن واجب المسلم أن يرتدى أفضل الثياب المتاحة له من دون خيلاء أو تباه أو تفاخر، كما أنه مطالب شرعا بأن يلتمس كل وسائل النظافة في جسده، فهو مأمور شرعاً بالطهارة، والحكمة من الوضوء المتكرر للصلاة خمس مرات في اليوم أن يتخلص المسلم من كل ما يعلق بجسده من أتربة أو وساخات أو ميكروبات.. فالنظافة هي شعار المسلم في كل وقت، والطهارة هي ديدنه خلال ساعات الليل والنهار، والتطيب بالعطر سلوك نبوي كريم.. والمسلم الذي يقتدى بسيد الأنبياء والمرسلين نظيف طاهر في غاية الأناقة وحسن المظهر ومثال للمسلم الذي يطبق تعاليم دينه.
ويوضح د. جمعة هنا أن إهمال المظهر العام لا علاقة له بالتقوى والورع، كما يتوهم بعض المتدينين الذين يظهرون في ملابس رثة، ويطيلون لحاهم وشواربهم من دون تهذيب، ويقول: الذين يبتعدون عن كل قيم النظافة والأناقة والجمال في ملابسهم وحياتهم الشخصية ليسوا أتقى الناس وأزهدهم في الدنيا، بل هؤلاء بعيدون عن تعاليم وتوجيهات الإسلام، وعليهم أن يراجعوا أنفسهم ويقوموا سلوكهم بعد أن يعلموا أن هذا الدين العظيم دين أناقة وحسن هندام.. وهذه حقيقة وليست شعارات تتردد هنا وهناك.
تصرفات مرفوضة
د. عبد الله النجار، أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث بالأزهر، يتفق مع د. جمعة في أن الإسلام يأمر المسلم دائما بالنظافة ويحثه على التجمل، ولا يقر أبدا سلوك المسلم الذي يهمل نظافة جسده، ويؤذي الناس برائحته، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما، يغسل فيه رأسه وجسده»، وليس معنى هذا التوجيه النبوي أن يلتزم المسلم بالأيام السبعة أو يضع لنفسه برنامجا لكي يغتسل كل أسبوع، فالأيام السبعة تمثل الحد الأقصى لعدم الاغتسال، لكن المسلم مأمور بأن يكثر من الاغتسال وتنظيف جسده حتى ولو فعل ذلك سبع مرات في اليوم.
والرسول صلى الله عليه وسلم وهو من يقدر جيداً كفاح الإنسان وعرقه وتواضعه نصح بعدم اختلاط المسلم بالناس وهو يرتدي ثياب عمله إلا للضرورة، أو أن يسير بينهم بثياب رثة أو غير نظيفة. فقد جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه ثياب وسخة، فقال: «أما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه».
لذلك فليس من آداب الإسلام وأخلاقه أن يهمل المسلم ثيابه، أو أن يختلط بالناس بثياب عمله، أو يزاحم الناس بها، خاصة إذا ما كانوا يتضررون منها، فالمسلم مأمور بأن يحافظ على مشاعر الآخرين وألا يؤذيهم بقوله أو سلوكه أو ملابسه.. وليس من الدين أن يترك المسلم شعره ثائراً منفراً، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً شعثاً قد تفرق شعره فقال: «أما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه».
ومن هنا يرفض د. النجار سلوك هؤلاء الناس الذين أنعم الله عليهم بالخير الوفير ويهملون مظهرهم ويكتفون بأبسط الثياب، ويقول: إهمال المظهر والهيئة الحسنة ليس دليل زهد في الدنيا بقدر ما هو علامة إهمال وعدم اكتراث من الإنسان، فبعض الذين أنعم الله عليهم بالمال الوفير ويهملون مظهرهم ويرتدون ملابس بسيطة يهدرون نعم الله عز وجل في أمور أخرى، مثل الطعام والشراب والإنفاق على اللهو والعبث، والجري وراء النساء وتعدد الزوجات من دون ضرورة مع ما يستلزمه ذلك من إهدار للمال من دون داع ودون حاجة.
والاهتمام بالملبس والإنفاق باعتدال عليه ليس ضرباً من ضروب الإسراف، بل هو من باب التنعم بنعم الله، فالله سبحانه وتعالى كما أخبرنا رسوله الكريم يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. والقرآن الكريم يقول: «وأما بنعمة ربك فحدث».
قضية إيمانية
ويرتبط بمظهر المسلم وجمال ملابسه- كما يشير المفكر الإسلامي د. محمود حمدي زقزوق- عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر- قيمة حضارية أولاها الرسول أهمية كبيرة، وجاءت الوصية بها في العديد من توجيهاته الكريمة، وهي قيمة النظافة حيث تتردد على ألسنة المسلمين عبارة «النظافة من الإيمان» وتجسد هذه العبارة قيمة كبرى ينبغي أن تسود حياة المسلمين، وهي جعل النظافة جزءاً لا يتجزأ من الإيمان، الأمر الذي يجعلها ذات أهمية بالغة في سلوك الإنسان، لأنها بذلك لم تعد مجرد أمر مرغوب فيه، وإنما صارت بالإضافة إلى ذلك قضية إيمانية تتصل بالعقيدة المتأصلة في النفوس.
والنظافة التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسلم تنطلق من أسس دينية راسخة، فالنصوص القرآنية والتوجيهات النبوية التي تحث المسلم على النظافة والطهارة والحرص على المظهر الحسن كثيرة ومتنوعة.. فديننا يأمرنا بالنظافة قبل الدخول في الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، ويحرص على أن نأخذ زينتنا عند الذهاب إلى المسجد، وهذا أمر يتطلب النظافة حتى لا يؤذي مسلم غيره في المسجد برائحة كريهة أو ملابس غير نظيفة، فيكون بذلك سبباً في تنفير الناس من الذهاب إلى المسجد.
يقول د. زقزوق: إذا كانت النظافة مطلوبة في أمور الدين، فمن باب أولى ينبغي أن تكون مطلوبة في كل سلوكياتنا اليومية، فنحرص عليها داخل بيوتنا وأمام زوجاتنا وأولادنا حتى نكون قدوة طيبة لهم في النظافة وحسن الهندام، فتربية أولادنا على النظافة والأناقة والاهتمام بملابسهم، من أساليب التربية الإسلامية، وليس في ذلك تكبر وتعال على الآخرين كما يزعم البعض، فالتكبر والتعالي على الناس شيء، والحرص على ارتداء ملابس جيدة والظهور بمظهر حسن شيء آخر.
تجمل بلا تكلف
سألت عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: هل تجمل الإنسان وظهوره بمظهر حسن يدخله في باب الخيلاء المنهي عنها شرعاً؟
قال: المسلم مطالب شرعا بالتجمل من دون تكلف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحب الجمال»، فالجمال قيمة مطلوبة في كل شيء، وهو مطلب قرآني قبل أن يكون مطلبا أو سلوكا نبويا، فلفظ الجمال والتجمل قد ورد في كتاب الله عز وجل على صور متعددة ويشمل كل شيء في الكون، وهو يعني مظهر الإنسان ومظاهر الكون، كما يعني خلق الإنسان- بضم الخاء- وشعور الإنسان تجاه الجمال الطبيعي الذي خلقه الله سبحانه هو في حقيقة الأمر شعور بالجلال وإحساس بالانبهار، ولابد أن يقابل بالحمد والثناء على الخالق المبدع الذي نشر الجمال وعم إحسانه وإتقان صنعه كل شيء.. فالجمال صفة لمخلوقات الله كما ورد في قوله تعالى: «ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون»، كما أنه وصف للسلوك الإنساني كما في قوله تعالى: «فجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون».
والله سبحانه وتعالى «بديع السموات والأرض»، وقد خلق الإنسان في أجمل صورة «ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم».
وواجب المسلم أن يعيش كل معاني الجمال، بمعنى أن يحرص على النظافة والتجمل في هيئته من دون تكلف أو افتعال، كما يجب عليه أن يكون جميل الخلق في كل تصرفاته مع الناس، وأن يصبر صبرا جميلا، والصبر الجميل- كما قال علماء الأخلاق- هو صبر لا شكوى معه، وأن يصفح صفحا جميلا تنفيذا لقول الله تعالى «فاصفح الصفح الجميل»، وهو العفو من دون عتاب.
مطلب قرآني
والمسلم مطالب أيضاً بأن يتأمل جمال خلق الله وإبداعاته في خلقه، وهذا مطلب قرآني- كما يقول د. حذيفة المسير، الأستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر، فالله سبحانه قد خلقه كما نص القرآن في أحسن تقويم، ثم يتأمل صنع الله في السموات والأرض وما فيهما من جمال وإبداع إلهي.. ثم يتأمل جوانب الإبداع في أنحاء الكون الكبير، والتي أشارت إليها نصوص قرآنية كثيرة.. منها قوله تعالى: «أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد. رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج».
وختاما: فإن واجب المسلم أن يعيش حالة الجمال التي رسمها له دينه، من خلال الاهتمام بنظافته وحسن هندامه، ومن خلال التخلق بالصبر الجميل والصفح الجميل والتزين دائماً بالخلق الحسن في كل ما يصدر عنه من أفعال وأقوال.. كما ينبغي أن يستمتع بما يحيط به من جمال كوني وأن يتأمله ليقف على بديع صنع الخالق سبحانه.