فؤاد زكريا الموسيقي

12:32 مساء
قراءة 4 دقائق

ارتبطت العلاقة بين الفلسفة والفكر والموسيقا على أيدي مفكرين وفلاسفة كثيرين مثل فيثاغورث وأفلاطون وشوبنهور من الغربيين والفارابي والكندي وغيرهما من المسلمين والعرب، بل إن زغريد هونكه راحت تتحدث عن مدى الاستفادة من علم الموسيقا من قبل المفكر عندما أكدت أن اهتمام الفارابي بالموسيقا ومبادئ النغم والإيقاع، قد فتح أمامه المجال للدنو من عالم اللوغارتم .

وكان المفكر المصري فؤاد زكريا أحد الذين كتبوا في مجال الموسيقا، إلى جانب مؤلفاته الفكرية الكثيرة، بل إنه شغف بالموسيقا منذ سن العاشرة، ما دفعه إلى أن يخترع آلة موسيقية بنفسه، من خلال شده عدداً من الخيوط على علبة من الصفيح، ليصدر كل خيط منها نغماً خاصاً، كما أنه أقنع أسرته فيما بعد، بشراء مندولين كان يجيد العزف عليه . ومن هنا، فإن زكريا لم يكن مجرد ذواقة للموسيقا، كأي مثقف، مرهف الأحاسيس، رقيق المشاعر، بل إنه كان متابعاً للموسيقا، ودارساً وناقداً لها .

يتناول الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي كل ذلك عن زكريا في مقال له بعنوان الفلسفة والموسيقا معترفاً بأستذته له، من خلال تلقي أفكاره، مبيناً العلاقة الحميمة التي ربطت بين فؤاد زكريا وفن الموسيقا إذ يقول ربما بدت لبعضنا غريبة بعض الشيء، أو محتاجة إلى تفسير، ففؤاد زكريا مفكر يشتغل بفن يعد أقرب الفنون إلى المعرفة الموضوعية التي يتجرد فيها الإنسان من ميوله وعواطفه، ليعرف الموضوع الذي يتصدى له معرفة صحيحة .

كان زكريا يرى في الموسيقا الكلاسيكية ذروة الإبداع، ومعيناً لا ينضب، لذلك فإنه لم يكتف بتناولها، وإيلائها الأهمية، فقد خصص أحد كتبه عن الموسيقا في القرن التاسع عشر، كما ألف كتابين آخرين في الموسيقا هما ريتشارد فاغنر ومع الموسيقا: ذكريات ودراسات، بل إنه كان ينجذب روحياً إلى تلك الموسيقا الكلاسيكية، ويدعو للنهل والاستفادة منها، على أنها نموذج رفيع جدير بالاحتذاء، كما أنه، ونتيجة موقفه من حوار الحضارات، لم يجد مانعاً من التواصل الحضاري والإبداعي بين ثقافات الشعوب وفنونها، ومن بينها الموسيقا، لالتقاط حالات السمو فيها .

وإذا كان زكريا كما يبدو مشغولاً بهاجس القضايا الفلسفية الكبرى، معنياً بفتح بوابات العقل، من خلال دعواته العلمانية التي لم يفتأ يطرحها بإلحاح، ومن دون أن ينسى القضايا المصيرية لمجتمعه وأمته، مثلما كان ناقداً أدبياً لامعاً، فإنه كان في الوقت نفسه معنياً بالوعي الموسيقي والنقد الموسيقي الفني، داعياً إلى أن يفتح الناس من حوله بوابات أرواحهم أمام لغة الموسيقا التي تكاد تكون اللغة الوحيدة التي توحد خريطة العالم من أقصاه إلى أدناه، ليغدو بيتهوفن وشوبان مواطنين عربيين، كما يمكن لموسيقا الرحابنة ومترجمتهم الروحية فيروز أن يكونوا مواطنين عالميين .

رأى زكريا أن الموسيقا العربية بشكل عام في حالة تقهقر، وقال في حوار أجرته معه مجلة العربي الكويتية إن للموسيقا العربية بعداً واحداً، بينما للموسيقا أبعاد كثيرة، ولا يمكن لها أن تتطور، دون أن يتم تعميقها، وقد أثار هذا الرأي الذي طرحه زكريا حفيظة الكثيرين من العاملين في حقل الموسيقا، ممن رأوه مغالياً في طرحه، بل إن بعضهم استكثر عليه إبداء رأيه في مجال تقويم الموسيقا، معتبرين إياه دارساً وناقداً للموسيقا، فحسب، دون أن يعلموا بأن له حضوره الموسيقي موسيقاراً وفناناً ما يؤهله لفهم هذا العالم تطبيقيا ونظريا في آن واحد .

إن صرخة زكريا تلك، كانت نتيجة قراءة معمقة للموسيقا العربية، في لحظتها الراهنة، وكانت نتاج غيرة على الإبداع الموسيقي، الذي كان رسالته الروحية منذ نعومة أظفاره، ولم يتخل عنها حتى اللحظة الأخيرة من حياته، ولقد كان من بين المقالات القليلة التي دفعها للنشر في جريدة الأهرام التي كان يرى فيها ذروة الصحافة بحسب معاييره مقالان أحدهما عن القضية الفلسطينية، والآخر عن الموسيقا، وقد تلكأ نشرهما طويلاً، برغم اعتماده على زملاء له كالسيد يس، ولم يفرج إلا بعد لأي عن مقاله في الموسيقا، دون الآخر، وكان ذلك مدعاة لإثارة زوبعة من ردود الفعل عليه .

لا يفتأ زكريا يعلن إعجابه ببعض أعلام الموسيقا العرب، كما حالة الشيخ إمام، الذي قوم تجربته الفنية عالياً، وقال عنه: إن الشيخ إمام ظاهرة لها سماتها الفريدة التي تفوق كل من عداه من الملحنين، وهو يقدم أداء يتجاوز نطاق اللحن، كما أنه قال عنه في مقال نشره في عام 1969 إن خيوطاً مغناطيسية تربط هذا الفنان بجمهوره، وراح يسأل كيف تمكن الشيخ إمام من الجمع في قاعة واحدة بين أشد المستويات الثقافية تبايناً، وكيف استطاع أن ينتزع منهم جميعا استجابات متماثلة؟ وكيف ذابت أمامه الفوارق بين العقليات والثقافات إلى هذا الحد؟ إلا أنه يسجل في المقابل ملاحظاته الشديدة على الموسيقا الشرقية، بشكل عام، ويراها ذات بعد واحد، وهي تحتاج إلى الاستفادة من تجربة الغرب الموسيقية، لتكون لها أبعاد كثيرة، معمقة، وكان يقول ليس لدينا في الشرق موسيقا بالمعنى الصحيح، والفارق بين الموسيقا المحلية والموسيقا الغربية فارق في الدرجة، وحسب، وليس فارقاً في النوع .

ولقد أوجد زكريا ما سماه مصطلح اللذة السلبية الذي يشكل معادلاً لحالة الطرب العابر، بعيداً عن التفاعل الصميمي مع الموسيقا التي تعد مطهراً روحياً، وحافزاً لتطوير الذائقة، والتحفيز على الإبداع .

ذلك التماهي بين روح الفيلسوف والفنان، لدى زكريا كان يجعله يفلسف الموسيقا، أو يموسق الفلسفة، وإذا كانت لغة الفلسفة، تظهر هي الطاغية في شخصيته العامة، فإن لغة الموسيقا كانت لغته الأثيرة، كلما فرغ من رتابة إيقاع اللحظة الزمنية، بين أفراد أسرته، أو المقربين من الخلان، ليجد في عالم الموسيقا المعادل الروحي لصلته بالعالم .

يقول جابر عصفور عن خصوصية هذه العلاقة مع الموسيقا، وما أكثر ما كنت أنضم إلى أصدقاء فؤاد زكريا الحميمين، ليشرح لنا، في بيته في الكويت، أسرار هذا الموسيقارأو ذاك، خصوصاً من المنتسبين إلى المذاهب الموسيقية الحديثة، وكان الحديث يمتد بنا، ليبحر هذا الفيلسوف العقلاني العظيم بنا في آفاق لا حدود لها من المعرفة الموسوعية، والذوق المرهف، واليقظة العقلية والوعي النقدي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"