تجربة الفنان «ستيف سابيلا» ابن القدس، حامل الهوية المتراكبة، الفلسطيني/المسيحي/العربي، مضافاً إليها الهوية الكوكبية حسب تعبيره، تجربة متفردة في عالمين، عالم التصوير وعالم الكتابة. ومع صدور كتابه «معضلة مظلة هبوط»، أو مفارقة مظلة هبوط بمعنى أدق، باللغة الإنجليزية، يتجلى هذان الوجهان معاً، ولكن للتجربة الشخصية التي لا تنقسم بين الذات والموضوع، أو بين الأنا والآخر، بل لتحتفظ بتناغم داخلي معبر عن حياة تولاها شعور بالنفي والاقتلاع منذ الصغر.
في القدس، وقد ولد فيها وهي محتلة، لا يشعر الفلسطيني أنه ضحية عملية نفي متواصل لذاته فقط، بل ولمدينته أيضاً، هذه المدينة التي تحولت حسب مشروعه الاستقصائي إلى انعكاس لذاتها، صور متعددة بتعدد المنفيين. تحولت إلى صورة متخيلة. وكشف هذا المشروع، ليس عن صور مختلفة فقط، بل وعن معانٍ للمنفى مختلفة. على رأس هذه المعاني يأتي السؤال عن الهوية، ذلك الذي يلح إلحاحاً وجودياً جارحاً، ماهي الهوية؟ هل هي هذه المعطاة بالكلمات؟ هل هي هذه التصنيفات التي نولد فيها ونواصل حياتنا في ظلالها؟
الجواب الراهن فلسطينياً طرحته تجربة إدوارد سعيد، وقوله بالهوية ذات الطبيعة السائلة التي لا تستقر، أولا يجب أن تستقر، بوصفها ما يمكن أن يبدعه الإنسان في تحول دائم. ولكن ستيف يضيف معنى جديداً في كتابه يستمده من حياته في القدس المنفية، ثم من منافيه، في لندن وبرلين، حيث يقيم. إنها الهوية المتراكبة التي تصعد من الأولى من البداية، حيث ولد ضمن التصنيفات الجارية، من العائلة ثم المجتمع فالوطن، وأخيراً هذا الوطن الأوسع، وطن الإنسان. لا يقول ستيف إنه مع قضية شعبه المعرّض لكل صنوف الاقتلاع من الذات والأرض، فهذه بديهية لا تناقش، ولكنه وهذا هو الأكثر أهمية مع «العدالة»، مع «الحق» أياً كان مكانه وزمانه. هنا يعلو الفنان نحو هوية يبدأ هو بتطريزها، والتعبير له، بخيوط نابعة مما يرى ويعلم ويتعلم.
* * *
تمنحنا هذه التجربة، بوجهيها، التصوير والكتابة، سؤالاً: كيف ننظر؟ وإلى ماذا ننظر؟ كيفية النظر وإلى ماذا ننظر تجيب حصيلتنا الثقافية، وهي حصيلة متراكمة ينجم عنها في كل عصر منظور جديد. نحن لا ننظر مثل غيرنا من كائنات الماضي. نحتفظ بمنظور الماضي كنقطة مرجعية تحدد لنا المسافة التي قطعتها رؤية الإنسان بمختلف ثقافاته وأجناسه، ولكن نحن، الذين نعيش في الحاضر وأمامنا المستقبل، لنا نظرتنا أيضاً، تلك التي تولد بفعل التطور المعرفي، تطور العلوم والفلسفات وشتى المعارف الإنسانية بما في ذلك الفنون والآداب. وقبل أن تتولانا الدهشة أمام منظور هذا الفنان أو ذاك، علينا أن نتذكر أن تغير النظرة إلى المكان وكيفية رؤيته هي التي جعلتنا لا نكتفي بالنظر إلى جانب واحد من جوانب المنحوتة، بل إليها ككل من كل الجوانب. المنحوتة هي جماع جوانبها، أي هي كما ستبدو في نظر الفنان التكعيبي. وحين يضاف التغير إلى مفهوم الزمان، لا تعود المرئيات كما تبدو ظاهرياً ولأول وهلة، فالزمن يحضر فور أن نراقب تقلبات الضوء وتحولات المرئيات أمام أعيننا. المرئي إذاً ليس هو فقط ما نراه في هذه اللحظة أو تلك، بل هو سلسلة متواصلة من اللحظات. في ظل هذا ستولد النظرة الانطباعية أو التأثيرية كما يقال أحياناً، فتمنحنا عين الفنان الانطباعي صورة للوجود متلاحمة مختلفة عن المعهود. ما يبتعد عنا ويصبح عتيقاً هو المنظور التقليدي، منظور عصر النهضة في الشائع من القول، ويبث المنظوران الجديدان، التكعيبي والانطباعي الحيوية، ليس في فن التصوير فقط، بل وفي تفاصيل حياتنا وإدراكنا لها أيضاً.
هذا التغير في المنظور هو ما نلمحه في أعمال الفنان ستيف، هو يأتي لنا من تأملاته في منفاه ومدينته المنفية بكيفية نظر. أساس هذه الكيفية نقل الإحساس الشخصي بالتشظي، بالشتات، بسمتين من سمات تجربة المنفى الفلسطيني. أي أن الداخل سيكون موضع النظر. وحين يستخدم تقانة ما يسميها «الكولاج الفوتوغرافي» لا ينقل لنا من الفوتوغرافيا وجهها الساكن وإشارته الصامتة إلى وجودٍ لا ماضٍ له، بل ينقل التأثير اللحظي المباشر بخاصية فريدة لهذا النوع من التصوير هي قدرته، والتعبير له، على خلق صلة فورية بالمشاهد، وهي تقوم بهذا بوساطة صورة ذات شبه مدهش بالمرئيات في عالمنا. ولكن الأمر لا يتوقف هنا، بل يتواصل كما هو شأن أي صيرورة فنية نابعة من إنسان حيّ، فمع اكتمال هذه التجربة، وبعد سنوات، سيقول الفنان: «يبدو أن صوري فقدت ذلك التشابه المدهش مع مرئيات العالم، وتدفع الآن نحو فهم أكثر جدة للصورة الفوتوغرافية المستنفدة». لم يصل الموضوع في سلسلة أعمال الفنان ستيف إلى نهاية مرحلته فقط، كما تقول مؤرخة الفن «دوروثي شاين»، في مقالة لها عن تجسدات المنفى بصرياً في أعماله، بل وصل وسيطه إلى نهايته، حجماً وشكلاً، أيضاً. لأن سلسلة أعماله، من «مخرج» إلى «التحول» إلى «القدس في المنفى» ثم «نشوة»، وهي ترسم خريطة أطوار حياته، تنقل إلى المشاهد إدراكه للصورة الفوتوغرافية كأداة توثيق رمزية. المفتاح لديه إلى التحرر هو تعريف المرءُ لذاته، والأكثر أهمية؛ فهمه لذاته، وهذه مقاربة ستتكرر لديه في صفحات كتابه، ويرى أنها قابلة لأن يعتمدها كل إنسان، والفلسطيني بخاصة.
* * *
يفتتح ستيف كتابه بمقدمة تلقي ضوءاً على عنوانه. يتذكر في هذه المقدمة القفزة الحرة التي أقدم عليها من الطائرة مربوطاً بآخر «إسرائيلي» كان بيده أن يفتح مظلة الهبوط أو لا يفتح. ويتخذ من هذه الواقعة استعارة ترمز إلى وضعيته كفلسطيني تحت الاحتلال يسعى إلى التحرر، ووضعية كل فلسطيني. فكيف سيتحرر من هذا المحتل الذي يمسك بيده كل شيء؟ هل سيفك رباطه ويقفز إلى المجهول في الفضاء؟ هل سيصل إلى أرض حقيقية ثابتة أم سيرتطم بالأرض ويتحطم؟ أم سيعلق في الفضاء حيث الوطن/المنفى؟ وتواصل هذه الصورة الرمزية، الاستعارة، سريانها في مخيلته في منفاه في برلين، تصيبه بالشلل أحياناً، وتوقظه هذه الرسالة أو تلك من صديق. يقول له كمال بلاطة، صاحب أول ملحوظة عن خاصية النص الفلسطيني الواجبة والصادقة، السرد المتشظي سواء في السرد الروائي أو التأريخ، «تتحول اليرقة إلى فراشة في اللحظة التي تظن فيها أن العالم انتهى»، ويقول له هاني زعرب، فنان فلسطيني آخر مقيم في باريس، «أن تكون فناناً يعني أن تفشل فشلاً لا يجرؤ عليه أحد».
ويبدأ ستيف بخياطة جراحه، ولكن بأسلاك شائكة، ويكتب «جلستُ وتصفحتُ كل صفحة وورقة في ملف ماضيَّ، وحين انتهيتُ رشح السمّ كله خارجاً من جسدي. تصالحتُ مع تاريخي، وجدت حياة تقع بين«النشوة» و«الكآبة»، بين«المنفى» و«الوطن». أنا وحدي مصدر طاقتي. عندما كنتُ طفلاً سلطتُ ضوء المصباح على أعماق بئر منزلنا في المدينة القديمة. اليوم أنظرُ إلى بئر حياتي المعتم وأرى ضوئي ذاك نفسه منعكساً كما لو من مرآة. وفي كل مرة أسقط في الظلام، ظلامي، أذكّر نفسي بأن التحرير يأتي بالبحث عن نور داخلي».
الأجمل بعد كل هذا قوله «كانت حياتي لسنوات عديدة رهينة بيد الاحتلال، «الإسرائيلي»، ولكنني كنتُ حراً في أحلامي، فما أن تعلمتُ كيف أغيّرُ وعيي، أصبحت أحلامي هي واقعي. ولدتُ تحت الاحتلال، ولكنني وجدتُ طريقة لأحيا حراً. أما بالنسبة لتحرير أرض فلسطين، أترك الأمر لمخيلتنا الجماعية».