“غرفة أم الشيف” مصيف يطل على الماضي

شيد عام 1955 في جميرا
03:30 صباحا
قراءة 7 دقائق
تحقيق: زكية كردي
شيد مبنى مجلس غرفة أم الشيف عام ،1955 مصيفاً للمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حيث كان يقضي فيه بعض الفترات المسائية خلال موسم الصيف، ويعتبر المجلس أحد أهم الأماكن الموجودة في دبي، وبالتحديد بمنطقة جميرا، وعلى الرغم من بساطة البناء إلا أنه يُعد موقعاً مثالياً للمصيف حيث طبيعة المنطقة التي كانت تشتهر بوفرة النخيل والهواء وجودة التربة ولبعدها عن الضوضاء والعمران في ذلك الوقت .
حاول الفنان التشكيلي سعيد ثاني بن غليظة المهيري تجسيد المجلس في لوحاته الفنية ليقدمه كما يراه بقيمته الكبيرة من مختلف النواحي، مؤكداً أنه عندما يدخل إليه يجده يمثل لوحة حية لصورة الماضي، مجسداً أسلوب الحياة بكل تفاصيلها وأدواتها كما أنه مازال يحتفظ بمكانته بقلوب الإماراتيين وسكان المنطقة التي شيد فيها على اعتباره رمزاً بالنسبة لهم، اعتادوا أن يفخروا به وأن يكون جزءاً من ذاكرتهم، حيث اختار الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم هذه المنطقة التي كانت تطل على الخليج العربي وتقع بين ميناءي راشد وجبل علي ليبنيه ويتمتع بمكانة استراتيجية وبموقع مهم يطل على الحركة الملاحية، حيث كان يتابع أمور الاقتصاد بنفسه .
عن أهمية المجلس لدى الشعب الإماراتي بشكل عام يؤكد "بن غليظة" للمجلس أهمية كبيرة تعود إلى كونه رمزاً لمكان لقاء الشعب مع الحاكم، لبث هموم الناس وشكاواهم وتقديم الواجبات العامة من مباركات وعزاء وغيرها في الوقت نفسه، ويقول: "يُعد المجلس منبراً لبث الهموم وتبادل الشكاوى كما يعتبر أيضاً المكان الذي تنطلق منه العادات والتقاليد بالنسبة للشعب عامة من طريقة تقديم القهوة إلى إلقاء التحية وتقدير كبار السن وأساليب الحديث وآداب الحوار" .
ويعرفنا محمد المطروشي "مرشد سياحي أول، بقرية التراث ومجلس أم الشيف" عن قصة بناء المجلس واختيار المنطقة، يقول: "بني مجلس أم الشيف في خمسينات القرن الماضي، وكان بمنزلة مصيف للشيخ راشد آل مكتوم، يقصده وقت الظهيرة في فصل الصيف ليتناول غداءه مع أصدقائه أو ضيوفه، حيث كان هواء المجلس عليلاً خلال الصيف بسبب طريقة البناء والنوافذ الكثيرة الموزعة على الجهات الأربع، لهذا بني المجلس في الطابق الأول ليكون عالياً عن سطح الأرض ومرتفعاً ليجاوز أشجار النخيل التي كانت تحيط به من كل صوب بكثافة، حتى لا تمنع الهواء عنه، وليطل على البحر في الوقت نفسه، ويصف "المطروشي" بناء المجلس بأنه مؤلف من طابقين، الأرضي عبارة عن ليوان لا يوجد فيه سوى الأعمدة التي يرتكز عليها البناء، إضافة إلى غرفة صغيرة كانت مخرناً للمجلس، ويأخذنا الدرج المبني من الجص إلى الطابق الثاني وهو غرفة كبيرة ألحقت بها غرفة صغيرة كانت تستخدم لإعداد القهوة والشاي، ويشير إلى الاعتماد على الحجر البحري والجص في البناء، كما اكتسى بالفرش التقليدي الذي يمتاز بالبساطة والمساند المطرزة التي تمتد على طول المجلس، ويوضح أن هناك الكثير من المعروضات التراثية التي يحتويها تمت إضافتها بعد مرحلة الصيانة والترميم التي أجريت له ليقدم صورة حية للمجلس الإماراتي في تلك الفترة، بكل تفاصيل الحياة التي يحتويها من دلة القهوة إلى الخنجر والسيف والكثير من المشغولات اليدوية، كما تم حفر بئر للماء أيضاً بعد الترميم ليغذي الفلج الموجود في المجلس، وهو لايستخدم لغرض السقاية بل يخدم الناحية الجمالية للمجلس فقط، حفاظاً على الصورة الجميلة التي تعبر عنه .
ويؤكد أن المجلس كان تحول في إحدى الفترات إلى مركز للشرطة في ستينات القرن الماضي، قبل أن يتم تحويله إلى مكان أثري يحمل قيمة تاريخية كبيرة، ليتم ترميمه بعدها .
أما عن الحركة السياحية وإقبال الزوار على زيارة المجلس فيوضح أن فترة الصيف لا تحمل الكثير من الضيوف لأن المكان مفتوح، حيث تنشط الحركة في الشتاء فيقصد المجلس الكثير من السياح الأجانب والعرب إضافة إلى أبناء المنطقة أنفسهم .
وعن سبب تسمية المنطقة بأم الشيف، يقول أنور هنائي "مدير قرية التراث ومجلس أم الشيف": "سميت المنطقة بهذا الاسم تيمناً بأحد مغاصات اللؤلؤ الشهيرة بغناها بالمحار إذ كانت تحمل الاسم نفسه، ولأن هذه المنطقة كانت غنية بأشجار النخيل تمت تسميتها بهذا الاسم، مشيراً إلى أن هذا يعتبر أحد الأسباب المهمة لبناء المجلس في منطقة جميرا، القريبة من البحر، إضافة إلى أنها كانت تعتبر معزولة نوعاً ما ذاك الحين، فلم يكن فيها الكثير من الأبنية لهذا اعتبرت مكاناً مميزاً للباحث عن الهدوء .
وعن القيمة التراثية يوضح "هنائي" أن نمط عمارة البناء الذي يعود إلى فترة الخمسينات من القرن الماضي يشابه في تصميمه قلعة أم ريول التي بنيت على الطريقة نفسها حيث قامت على أعمدة توجد في الطابق الأول بهدف الحصول على التهوية بين أشجار النخيل كما هو الحال في مجلس أم الشيف .
ويقول المهندس محمد أحمد محمود، رئيس قسم المباني التاريخية، على الرغم من كون المجلس بسيطاً في بنائه إلا أنه يعتبر موقعاً مثالياً في موسم الصيف، لذلك اختاره الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، ليكون مصيفاً له منذ عام ،1955 موضحاً أن المكان لا يستخدم المكيفات مطلقاً حتى في أقصى درجات الحرارة، ما جعله مقصداً لعدد كبير من الزوار طوال أيام الأسبوع، خاصة أن الفلج الموجود في المكان أضاف جمالاً باهراً ونسمة هواء عليلة، تمتزج بصوت خرير المياه صانعة لوحة فنية ممتعة .
وتابع: "مجلس غرفة أم الشيف" شيد في منطقة جميرا بدبي، التي تتميز بمزارع النخيل وبيوت الصيادين، وكان مصيفاً للشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، كان يقضي فيه أوقات العصاري خلال فصل الصيف الحار بصحبة أسرته وأصدقائه ما أعطى المكان أهميته التاريخية كالمشاورات والمناظرات التي شهدها في واحدة من أهم فترات تاريخ دبي الحديث، مؤكداً أن اختيار هذا المكان مصيفاً يرجع إلى طبيعة المنطقة التي كانت تشهر بالنخيل والهواء وجودة التربة، وبعدها عن الضوضاء والعمران في تلك الفترة" .
ولفت رئيس قسم المباني التاريخية في بلدية دبي إلى أن سبب التسمية يرجع إلى هير أم الشيف الشهير الذي كان يعتبر من أغنى المناطق باللؤلؤ ومن أغلى الأنواع الموجودة آنذاك، ويبدو أن الشيخ راشد، رحمه الله، اسماه على اسم هذا الهير .
وقال: "المواد المستخدمة في بناء المجلس هي الأحجار المرجانية المستخرجة من البحر، والمواد الجصية والصاروج، وخشب الكندل، الذي كان يجلب من شرق إفريقيا، إضافة إلى سعف النخيل، موضحاً أن تصميم البناء قديم بعض الشيء لأن البناء مملوء بالفتحات، في حين أن المجلس العلوي يتسع لخمسين شخصاً، وإلى جانب النخيل هناك شجر اللوز والليمون، والمكان يتمتع بإقبال كبير خاصة من السائحين الأجانب الذين يسعون لمعرفة كل شيء عنه .
وتأتي الأهمية التاريخية للمكان الذي يتوسط حالياً منطقة سكنية حديثة، وروعي في تخطيط المنطقة الحفاظ على المبنى والحرم المحيط به، وحتى الآن يعتبر المبنى التقليدي الوحيد في المنطقة وتحيط به مزرعة نخيل إضافة إلى أشجار النبق واللوز" .
يصف المهندس رشاد بوخش المجلس بالمعماري الفريد الذي يحكي لزواره حكاية شعب من خلال مكوناته، حيث يتكون من بناء مستطيل الشكل بأبعاد هندسية وهو بناء تقليدي من طابقين، ويتميز ببساطة عناصره المعمارية، الطابق الأول رواق "ليوان" مفتوح عبر أعمدة، وغرفة صغيرة تستخدم مخزناً للمجلس، ويجاورها سلم يؤدي إلى الطابق العلوي حيث يمتد رواق متسع تقع خلفه غرفة المجلس الرئيسية والتي تفتح على مخزن صغير، ويمتد منه سلم خشبي صغير إلى "دورة مياه" منخفضة، وهناك حديقة مقامة على النمط التقليدي في الحرم .
وقامت بلدية دبي بترميم المجلس عام 1994 ميلادية بتقوية الأساسات وترميم الجدران ومعالجة الشروخ، وأثث المبنى بحيث تشغل قاعة المجلس العلوي المفروشات التقليدية إلى جانب الخدمات المرتبطة به لإعداد الطعام والقهوة التقليدية، كما روعي في الحديقة إقامة نماذج متباينة من افلاج وعريش وأحواض مياه على نمط مزارع النخيل التقليدية، وزود بعريش تقليدي ليكون مقهى للزوار إلى جانب دورات المياه والإدارة .
ولفت إلى أن المجلس يشهد إقبالاً عديداً من الجنسيات لزيارته، يتعدى عددهم 400 زائر يومياً من مختلف الجنسيات بمن فيهم الإماراتيون الذين يستنشقون فيه عبق الماضي الجميل، مشيراً إلى أن الميزة الفريدة في هذا المكان جوه الطبيعي الرائع، فحتى في أقصى درجات الحرارة لا تستخدم المكيفات، ومن هنا كان اختيار موقعه مصيفاً موفقاً منذ إنشائه وحتى الآن .
وعن موقعه في منطقة الجميرا أوضح بوخش: "المجلس كان يطل على البحر مباشرة، إذ كانت هذه المنطقة معزولة وهو ما جعلها فريدة في موقعها كمصيف، أما الآن فيفصلها عن البحر شارع الجميرا بحيث أصبحت في الجانب الآخر من الشارع إلا أن المنطقة مازالت محافظة على شكلها القديم مع بناء بعض الفيلات الصغيرة بها، مؤكداً أنه يتميز ببنائه القديم وسط المباني الحديثة التي انتشرت في منطقة الجميرا وهو ما يجعل الناس تقبل على زيارته وتستفسر عن تاريخه خاصة من أبناء الجنسيات الأجنبية، وهو ما جعل دائرة السياحة والتسويق التجاري تفتحه للجمهور منذ الثامنة صباحاً حتى التاسعة ليلاً" .
أضاف: "الأواني القديمة الموجودة فيه هي ما تبقى من استخدامات أسرة الشيخ راشد، رحمه الله، وتم الاحتفاظ بها وتعطي نفحات من تاريخ المكان الذي يتمتع بسحر خاص، خصوصاً خلال فترة الصيف التي يصعب فيها الحصول على هواء عليل من دون مكيفات .
والزائر للمكان يشعر كأنه في الإمارات القديمة التي يصعب إيجادها وسط الطفرة العمرانية التي تشهدها دبي حالياً، حيث الجمال الطبيعي بين الزرع وأشجار النخيل المنتشرة في المكان، كما أعطى الفلج الملتف بين النباتات بأحجامها وصوت المياه روحاً للمكان من عبق التاريخ .
ومن الأشياء اللافتة في المكان اهتمام الزائرين بالسؤال عن كل شيء بدءاً من سيرة صاحبه الشيخ راشد، رحمه الله، ومروراً بالأشجار والأواني القديمة وطريقة البناء المختلفة .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"