اكتشاف الآخر.. لحظة معرفــــة

03:02 صباحا
قراءة 6 دقائق

 القاهرة: مدحت صفوت

من المستحيل أن نقرأ أدباً لأمة ما خالياً من أيّ تأثيرات أدبية وثقافية لأمم وحضارات أخرى، فقدرُ الكتابة في أشكالها المتباينة أن تؤثر وتتأثر، وتجري هذه العمليات تحت سقف «المثاقفة»؛ المصطلح الذي صكه الأنثروبولوجيون الأمريكيون أواخر القرن التاسع عشر بديلاً عن «التبادل الثقافي» عند الإنجليز، أو «التحول الثقافي» عن الإسبان، أو «تداخل الحضارات» عند الفرنسيين.

ثمة فارق بين التأثير والتأثر من جانب، والتقليد من جانب آخر؛ إذ يُعنى الأخير بالتخلي عن الشخصية الإبداعية الذاتية والذوبان في النتاج الأدبي والثقافي الوافد، وإعادة صياغة نموذج أدبي ومحاكاته محاكاة كمية شبة تامة، فيما يُعنى التأثير بالتلاقح المنتج بين ثقافتين. وبناء على هذا الفارق، فإننا نفضل استخدام مصطلح المثقافة؛ للإشارة إلى عملية التأثير والتأثر بين الثقافة العربية وغيرها؛ لما يفترضه المفهوم، حسبما يرى الدكتور صلاح السروي في دراساته، من مساواة في الفاعلية والتفاعل بين الثقافات والآداب جميعها، على اختلاف سياقاتها التاريخية - الاجتماعية. كما يتأسس على أن اختلاف سماتها الثقافية ومظاهر إسهامها الفكري والجمالي لا يبرر بأي حال القول إن إحداها سابقة، بينما الأخرى مجرد لاحق، ومن هنا نستطيع أن نرتب على ذلك أن ما يمكن أن يدور بينها من تبادل ثقافي - أدبي إنما هو من قبيل التفاعل الثقافي أو «المثاقفة».

بعيداً عن الانغلاق

في الوقت الذي تفترض فيه المثاقفة مساواة فاعلة بين طرفي التبادل الأدبي، تجدر الإشارة إلى أن مراحل التأثير والتأثر ليست مراحل زمنية منغلقة، إنما هي عمليات متداخلة ومتشابكة، ففي الفترة التي استهل خلالها الأدب العربي في التواصل مع الآداب الفرنسية، كانت الآداب الروسية بدورها تلعب دور التأثير في الكتابات العربية، ولا يبدو لنا الأمر متعلقاً بالثورة البلشفية، فعلاقة الأدب الروسي بغيره من الآداب سبقت الحركة السياسية التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 1917.

وصنع الأدب الروسي شهرة خارج بلاده، وامتد تأثيره إلى الأدب الإنجليزي والأدب الأمريكي، ولا سيما العربي، واشتهرت كتابات دوستويفسكي وتولستوي وبوشكين، وامتدت تأثيراته إلى بواكير السرد العربي، ففي كتابه «فجر القصة المصرية» يذكر يحيى حقي أن القاص المصري محمود طاهر لاشين تأثر على نحو واضح بالأدب الروسي، قبل أن تسيطر الواقعية الاجتماعية من خلال «الأم» لمكسيم جوركي، ويتجلى اسم يوسف إدريس مع مطلع الخمسينات بوصفه الأكثر تأثراً بأديب روسيا أنطون تشكيوف.

وقد بات مؤكداً أن الأدب الروسي قد ألهم أجيالاً من الكتّاب من العرب وغير العرب، الأمر الذي دفع ببعض الأكاديميين الغربيين إلى الربط بين فيرجيينا وولف وتولستوي، كما اعتبره الأديب المصري نجيب محفوظ، الذي حاز نوبل 1988 أجمل الآداب جميعها، وأهمها على الإطلاق.

طغيان

في نظرنا، تبدو العلاقة بين الترجمة والمثاقفة وطيدة ومتشابكة، ولا انفصال فيها، فلا حديث عن تأثير ثقافة ما في غيرها من دون وجود كم وافر من ترجمات النتاج الأدبي بين الثقافتين. ومع نشاط ترجمة أدب أمريكا اللاتينية، تعرف القارئ العربي، بشقيه العام والمتخصص، إلى هذا النتاج في تحولاته الكبرى، وفي مآلاته اللاحقة.

الأمر الذي بدأ مع ستينات القرن العشرين، بعد أن غزا الأدب الإسباني، وعلى نحو لا مثيل له، أغلب ثقافات العالم، بخاصة بعدما حصلت الشاعرة التشيلية جابرييلا مسترال على جائزة نوبل في الآداب 1945، ومن بعدها ميجال أنجيل استورياس من جواتيمالا 1967، ثم التشيلي بابلو نيرودا 1971، وتعرّف العالم إلى أسماء؛ مثل: جابرييل جارسيا ماركيز من كولومبيا، وأليخو كاربنتيير وليوناردو بادورا من كوبا، وخوان رولفو وأكتافيو باث وكارلوس فوينتيس من المكسيك، وخورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار وبيّو كاساريس من الأرجنتين، وماريو بارجاس يوسا من بيرو، وفي مرحلة تالية، برزت أسماء أخرى؛ أهمها: روبرتو بولانيو.

وأصبح أدب أمريكا اللاتينية أكثر قراءة في العالم العربي، مع حصول ماركيز 1982 وأكتافيو باث 1990 ثم يوسا 2010، على نوبل، ووجد القارئ العادي ضالته في تصور الأدب حكاية مشوقة، تجلب متعة القراءة، فيما بحث القارئ المتخصص- إن جاز التعبير- عن التقاليد العريقة، الضاربة جذورها عميقاً فى أرض أمريكا اللاتينية وشخصيتها الفردانية، راصداً ما مثله من نقلة نوعية خاصّة في عالم الخلق والإبداع الأدبي في فضاء اللغة الإسبانية.

اختلاف

لكنّ الطريف، وفي الوقت الذي تعامل فيه غير إسبان أمريكا اللاتينية مع الأدب الوافد من قارة أمريكا الجنوبية بوصفه أدباً قومياً، رآه بعض أبناء جنسه أدباً قطرياً يخص كل دولة على حدة، فحسبما ذكر مترجم كتاب «أدب أمريكا اللاتينية.. قضايا ومشكلات» أحمد حسان عبد الواحد، في حوار جرى على شاشة التلفزيون البريطاني بين الروائي البيروفي يوسا والكوبي جييرمو كابريرا انفانتي؛ بمناسبة ظهور الطبعة الإنجليزية لآخر روايات الأخير، احتفى يوسا بزميله باعتباره كاتباً أمريكياً لاتينياً، بينما أصرّ انفانتي على أنه مجرد كاتب كوبي. ولم يكتفِ بذلك؛ بل مضى إلى حد إنكار أنه يرى شيئاً مشتركاً مثلاً بين المكسيك، ذات الهنود، وبين كوبا، ذات الزنوج إلى جانب الخلاسيين والبيض.

وقتها، أكد انفانتي أن عبارة «أمريكا اللاتينية» هي عبارة اخترعهتها فرنسا ثمّ عممتها الولايات المتحدة؛ نتيجة إحساسها بالذنب؛ لأنها احتكرت لنفسها اسم أمريكا. إزاء ذلك ردّ الكاتب البيروفي بأن تسمية أمريكا اللاتينية قد تبنتها بلدان أمريكية عدّة في وقت واحد، واستخدمتها في مواجهة إسبانيا خلال حرب الاستقلال.

ومع هذا الخلاف، يصبح السؤال عن تأثير «أدب قومي» على غيره من الآداب ضرورياً، وفي ظل اختلاف أرباب الأدب نفسه، على وجوده في صورته القومية، التي يفترض غيرهم وجودها؛ بسبب وحدة اللغة، اللغة الإسبانية أو القشتالية، التي فرضها المحتل الإسباني على أغلب دول قارة أمريكا الجنوبية، فيما فرض المستعمر البرتغالي لغته على البرازيل التي قد تعد قارة بذاتها.

التأثير الفرنسي

مبكراً، بدا تأثير الأدب الفرنسي مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر والشام «1798-1801»، وعلى الرغم من قصر مدة فترة الغزو، فإنها فتحت الباب على مصراعيه؛ لتلاقي ثقافتين مختلفتين، وولع الشعراء الرومانتيكيون الفرنسيون بالشرق، وزار بعضهم عدداً من البلدان، بخاصة بعد إنجاز موسوعة وصف مصر التي استغرق تأليفها نحو عقدين. والحقيقة أن تفاعل العرب مع النتاج الفرنسي أيضاً كان سريعاً، فمع ابتعاث المفكر المصري رفاعة رافع الطهطهاوي، عمل على ترجمة نماذج من الشعر الفرنسي إلى العربية، ونشر خلال فترة إقامته في باريس ترجمته لقصيدة الشاعر جوزيف أجوب «نظم العقود في كسر العود».

ومع مطلع القرن العشرين، استثمر الشعراء العرب معرفتهم بالمدارس الباريسية واطلاعهم على الثقافة الفرنسية، وساروا على نهج عدد من شعراء الفرنسية، بخاصة في شقها الرومانتكي؛ أمثال: خليل مطران وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وبشارة الخوري، فيما عمل أمير الشعراء أحمد شوقي على استثمار الثقافة الفرنسية، ونقل عدداً من الألوان الشعرية إلى العربية، بخاصة الشعر المسرحي، الذي بدأ يقرضه خلال فترة وجوده في باريس وإنتاج الرواية الشعرية الأولى في الأدب العربي في شكل مسرحيتة «علي بك الكبير».

وبعد تأثر شوقي بنحو نصف قرن، كانت الثقافة الفرنسية الأكثر حضوراً عند شعراء قصيدة النثر، منذ عام 1957 عندما أصدر يوسف الخال مجلة «شعر» الشهيرى، وفي العام نفسه ألقى «الخال» محاضرة له بعنوان: «الشعر الحديث»، وهي تسمية حلت محل تسمية الشعر «الحر» الذي كان شائعاً في الخمسينات من القرن العشرين، قبل أن يعتمد مفهوم «قصيدة النثر».

ومن وسط رفاق قصيدة النثر، كان الشاعر السوري أدونيس الأكثر تأثراً بالثقافة والشعر الفرنسيين، وهو أول من خاض من رفاقه تجرية الترجمة، وتعريب نصوص فرنسية بخاصة للشاعر سان جون بيرس، ومن بعده رونيه شار وهنري ميشو، قبل أن يقفز على أكتافيو باث مرة والإنجليزي «ت. س. اليوت» مرة أخرى.

وعلى صعيد التأثير الفكري والنقدي، جاءت أسماء عربية عدّة بعد تخرجها في الأكاديمية الفرنسية أو اعتماد المناهج الفرنسية بخاصة عميد الأدب العربي طه حسين، ويحيى حقي وأحمد حسن الزيات ومحمد مندور وغنيمي هلال وزكريا عناني، فيما اختص توفيق الحكيم تأثير المسرح الفرنسي غير الشعري لنفسه في بدايات القرن العشرين.

أنماط فنية

أثر الأدب الفرنسي شعراً ومسرحاً في المشرق العربي، وكان التأثير الباريسي سردياً على نحو أخص في المغرب العربي، ومع الكتّاب الجزائريين تحديداً، الذين وصل حد تأثرهم إلى الكتابة بالفرنسية، ونشر أول رواية مكتوبة بالفرنسية لأديب جزائري 1892، مع سيطرة التأثيرات الفنية والأنماط الفرنسية التي لم يكن للرواية العربية أي عهد بها.

إن التداخل لا يقتصر على ثقافة واحدة في مرحلة زمنية واحدة، فحتى الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية تأثر بالأدب الأمريكي، بخاصة بعد نزول الأمريكيين إلى شمال إفريقيا 1942 وفرض وجودهم بإصدار النشرات الإعلامية، وتبرز هنا كنماذج روايات «ثلاثية الجزائر» لمحمد ديب، و«عيد الميلاد» لمولود فرعون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"