رائحة الشعر

02:59 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد عبدالله البريكي


لا يولد شاعر من دون أب وأجداد، هذه سنة الإبداع، فهو سلسلة متصلة، ترتبط بنسب قوي وإن اختلفت الرؤى، فالأصل هي تلك الشرارة الإبداعية الأولى التي أشعلت جذوة الإبداع حتى وإن كان الإبداع حالة فردية، وهذا ما يحيلني إلى المعنى الذي قاله الشاعر أبو العلاء المعري:

«وقبيحٌ بنا وإن قدِمَ العهْدُ هوانُ الآباءِ والأجدادِ».

إن تضمين الشاعر لبيت شعر لشاعر آخر هو تأثر، ومن وجهة نظري هو إشاعة للجمال، والاعتراف بما قدمه الغير من دهشة، وهو نوع من الإحسان، يحفظ صلة الوصل والرحم بين الأجيال والأفراد، وقد ينتج عن بيت شعر واحد قصيدة أو عدة قصائد مدهشة، تختلف في الرؤية واللغة والخيال؛ لكن الفضل يعود إلى تلك الشرارة التي أشعلت حطب الفكرة، ونثرت على الروح الجمال، وولدت حالة شعرية مختلفة في الطرح، ولا أعني التأثر في التضمين فقط، إنما في الوقفة التأملية في حرم الجمال، فالقصيدة بناء متكامل، وإن أعجب البعض بجزء منه، فقد حصل على المأمول من وقفته في حرمها، فهي ستحيل طاقاته إلى التشظي الذي ينتج حالة شعرية جديدة، أساسها تلك الحالة التأملية، فقراءة الأدب ليست فسحة للمتعة فقط، إنما تأمل في الزمان والمكان، وتأثير الموجودات التي تحيط به، فيتأثر المبدع بتلك الموجودات، التي تنعكس إيجابياً على نصه؛ إذا أحسن توظيفها، والتوظيف السليم لها هو سبيل للخلود، وهو ما يجعل منها حاضرة في كل العصور، هذا الحضور الذي ينتج عن التفكر في كيفية الصنع والإتقان، وهو ما يحيل إلى الغيرة الإيجابية التي تسهم بشكل كبير في المحاكاة أو في صنع حالة فريدة جديدة تأثرت بدهشة إبداعية سابقة.

ومن وجهة نظري، فإن محاولات التجديد في جسد القصيدة العربية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخٍ راسخٍ في أرضٍ صلبة، ولا ينفصل عن هويته الضاربة في الذاكرة الإبداعية، فالجمال يأتي بجمالٍ آخر، والبذرة الطيبة تنتج غصوناً وفروعاً وثماراً متنوعة، ولا تتوقف حالة التأثير أو التأثر عند شاعر يكتب قصيدته على غرار قصيدة، أو من خلال التأثر بفكرتها أو لغتها لينتج نصّاً موازياً، إنما تأثير الأدب ينسحب على أثره في حياة المجتمعات وسلوكاتهم، فكم من بيت شعر سارت به الركبان، وتأثر به خلق كثيرون، فنتج عنه حراك يحفز الإبداع على الحضور من أجل التقاط إرهاصاته، لتكبر لاحقاً في مخيلة المبدع، فتؤثر فيه وتمده بطاقة شعورية تجعله في حالة من القلق الذي يحيله أخيراً إلى قراءة بيت شعر أقام أمة، أو غيّر في سلوك، أو صنع حالة جمالية، فيولد مع هذا المبدع مولوداً جديداً يرتبط بنسبٍ متصلٍ عريقٍ تفاخر به الأجيال.

والشواهد في أدبنا العربي كثيرة مثل تأثر المتنبي بأبي تمام كما أشيع، ورغم نفي المتنبي ذلك وإنكاره معرفته بأشعاره فقد ذهب بعض النقاد إلى أن المتنبي أعاد تدوير أبيات لأبي تمام، فضلاً عن أمير الشعراء أحمد شوقي الذي شاع أيضاً في المحيط الإبداعي تأثره بشعراء سابقين.

التأثر في الأدب لا يتوقف عند فرد أو أمة أو جنس أدبي واحد، فقد تأثر العديد من شعراء العربية بأمم أخرى من خلال قراءة أعمالهم الإبداعية، على الرغم من عراقة وأصالة وريادة شعرنا العربي، هذا التراسل أفاد الإبداع، ورفده برؤى وخيال مختلف استطاع من خلاله كبار الشعراء توظيفه بذكاء في نصوصهم، وفي المقابل استفادت أمم أخرى من الكنز الكبير لشعرنا وأدبنا العربي، وشهدت له بالريادة والفخامة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"