الدين في الانتخابات الأمريكية

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

يشكل حدث الانتخابات الرئاسية الأمريكية بالنسبة لكل المهتمين بالسياسة الدولية، مناسبة جد مهمة من أجل تسليط الأضواء على خصائص المجتمع الأمريكي لفهم التحولات التي تحدث في أقوى دولة في العالم. ويُجمع المراقبون على أن الجانب الديني يمثل أبرز العوامل المؤثرة في المشهدين السياسي والمجتمعي في أمريكا؛ لأنه من الصعوبة بمكان فهم التوازنات السياسية للدولة العميقة في واشنطن، دون الأخذ في الحسبان الدور المحوري للدين ولجماعات الضغط المرتبطة بالجمعيات الدينية التي تلعب دوراً حاسماً في رسم معالم السياسة الأمريكية على المستويين الداخلي والخارجي، خاصة عندما نعلم أن أمريكا تعتبر أكبر دولة مسيحية ويوجد بها أضخم تجمع للشتات اليهودي في العالم.

وفي السياق نفسه، تشير أرقام نُشرت سنة 2003 إلى أن 50% من الأمريكيين يذهبون أسبوعياً إلى الكنيسة وأن 95% من الشعب الأمريكي يؤمنون بوجود الله، وهناك بيت عبادة لكل 865 شخصاً، كما أن أمريكا هي البلد الذي يحصل فيها الدعاة على مبالغ خيالية من نشاطهم الدعوي، حيث بلغ على سبيل المثال، مجموع ما حصل عليه رجل الدين بيلي جراهام سنة 2000 أكثر من 126 مليون دولار. وفي الولايات المتحدة تجاوز عدد القنوات التلفزيونية المتخصّصة في البرامج الدينية 200 قناة. وتؤكد الأرقام أيضاً أنه على الرغم من تزايد أعداد الملحدين في الولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية، فإن أعداد المؤمنين وخاصة من المسيحيين، ما زالت مرتفعة جداً، مقارنة بكل الدول الأخرى، خاصة في أوروبا الغربية التي لا يحتل فيها الدين مكاناً مؤثراً في التوجهات الكبرى للنخب السياسية، على عكس الولايات المتحدة التي كثيراً ما يختلط فيها الخطاب السياسي بالخطاب الديني.

ومن الواضح أن الأغلبية الساحقة من الأمريكيين المتدينين يدعمون الإدارات الجمهورية المحافظة من رونالد ريجان في الثمانيات من القرن الماضي، إلى جورج بوش الابن، وصولاً إلى دونالد ترامب الذي لم يتردّد في عز الأزمة العرقية التي عرفتها الولايات المتحدة بعد مقتل المواطن الأسود جورج فلويد، في رفع الإنجيل أمام عدسات الكاميرات بمحاذاة كنيسة تاريخية، توجد على بعد بضعة أمتار من البيت الأبيض. ومع ذلك، فإن المرجعية الدينية ليست غائبة تماماً عن الخطابات الرسمية للرؤساء الديمقراطيين، كما كان عليه الشأن بالنسبة للرئيس الأسبق جيمي كارتر.

ويذهب الكاتب والتر اسيل ميد في مقاله الموسوم: «الدين في السياسة الخارجية الأمريكية»، إلى أن الشعب الأمريكي متدين منذ هجرة (البيوريتانز  الأطهار أو الحجاج) إلى أمريكا التي اعتبروها أرض الميعاد، واعتبروا أنفسهم شعب الله المختار الذي سيعمل على بناء أورشليم الجديدة وذلك سنة 1620. وبالتالي، فإن أغلبية الأمريكيين ينظرون إلى بلادهم على أنها تمثل حصن المسيحية، وأن لديهم رسالة سماوية يتوجب عليهم إبلاغها لكل شعوب العالم. ويضيف ميد أن التراث الديني الأمريكي خرج من رحم حركة الإصلاح في إنجلترا وأسكتلندا في القرن السادس عشر، ويستند إلى 3 عناصر شديدة التأثير: «تراث متشدد وصارم يمكن وصفه بالأصولي، وتراث أخلاقي تقدمي يعرف باسم «الليبرالية المسيحية»، ثم تراث ايفانجليكي»، لذلك فإن المسيحية البروتستانتية في نسختيها الصارمة والليبرالية تمثلان أهم أسس الهوية الأمريكية وتؤثران في التوجهات الكبرى للسياسية الأمريكية، مقارنة بالكاثوليكية التي لا يكاد عدد أتباعها يتجاوز 23% من العدد الإجمالي للمسيحيين، ويبقى نفوذهم السياسي هامشياً إلى حد بعيد.

وعليه، فإنه على الرغم من أن التأسيس التاريخي للهوية الأمريكية كان يتأرجح دائماً بين المرجعية التي تحيل إلى الآباء المؤسسين لأمريكا، وإلى حرب الاستقلال التي تتم من خلالها الإشادة بالأسس الجمهورية وبالدستور العلماني للدولة، وبين المرجعية الدينية التي بدأت تتبلور بداية من القرن التاسع عشر والتي تُعلي من شأن الأطهار الذين وصلوا إلى أمريكا في القرن السابع عشر، والذين أرادوا أن يجعلوا من أمريكا رمزاً للالتزام بالأخلاق والقيم المسيحية، فإن الوصول إلى سدة الحكم في أمريكا يظل مرتبطاً إلى حد بعيد، بتأكيد ولاء واحترام الشخص المرشح لمنصب الرئاسة للرموز الدينية.

ويمكن القول في الأخير إن العامل الديني سيلعب دوراً حاسماً في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، خاصة أن التيار الديني في أمريكا  مثله في ذلك مثل كل التيارات الدينية في العالم  له قدرة هائلة على تجنيد وحشد أتباعه، من أجل التوجّه إلى صناديق الاقتراع في دولة تظل فيها نسبة التصويت متوسطة. ومن غير المستبعد، اعتماداً على كل هذه المعطيات، أن يلجأ ترامب  بدعم من التيار الديني  إلى التشكيك في نتائج التصويت عن طريق المراسلة إذا لم يستطع خصمه حسم نتيجة الاقتراع بفارق كبير.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"