مناورات جسر الصداقة في البحر الأسود

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

حصلت مناورات «جسر الصداقة» بين القوات البحرية الروسية والمصرية للمرة الأولى في البحر المتوسط في يونيو/حزيران 2015، وأعقبها في نهاية شهر أكتوبر من ذات العام إسقاط طائرة الركاب المدنية الروسية فوق سيناء المصرية، وقد اعتبر الحادث في حينها؛ أنه رد من الجماعات الإرهابية، ومن القوى التي تدعمها في الخفاء، على تطور العلاقات بين البلدين الكبيرين، وعلى اعتبار أن تعزيز العلاقات بين موسكو والقاهرة، جاء رداً على المواقف التركية وغير التركية التي كانت تتحامل على ثورة 30 يونيو 2013، والتي أطاحت بحكم «الإخوان»، وأوصلت الرئيس عبد الفتاح السيسي فيما بعد إلى سدة الرئاسة.

من البحر المتوسط إلى البحر الأسود، انتقلت مناورات «جسر الصداقة» الروسية– المصرية نهاية هذا العام، في ظروف سياسية تختلف عن ظروف عام 2015 في بعض الجوانب، وتتلاقى مع خصائص تلك المرحلة في جوانب أخرى.

فمن حيث الأهداف المعلنة للمناورات؛ بقيت الشعارات ذاتها، وهي: تطوير الخبرات العسكرية والتدريبات على أحدث الأسلحة، خصوصاً منها الأسلحة المتطورة التي حصلت عليها مصر من روسيا، كما على الاندماج بين مختلف صنوف الأعتدة الدفاعية الأخرى؛ حيث إن مصر تمتلك ترسانة متنوعة تشمل أصنافاً حديثة من السلاح الأمريكي والفرنسي والمحلي الصنع، إضافة إلى السلاح الروسي، ومن الأهداف الأخرى: التدرب على مواجهة التهديدات الإرهابية، ومنع تهريب السلاح والمرتزقة عبر البحار.

أما الأهداف غير المعلنة؛ فهي تتشابه في بعض جوانبها مع مقاصد مناورات عام 2015، في التأكيد على وجود قوى دولية أخرى فاعلة على الساحة الإقليمية وفي الممرات المائية، يمكنها إحداث فروق استراتيجية.

في القراءة السياسية لمناورات جسر الصداقة بين حشد من القطع العسكرية البحرية المصرية التي شوهدت تعبر المضائق التركية، وبين نخبة أسطول البحر الأسود الروسي الفائق التطور؛ دلالات جيوسياسية واستراتيجية واضحة، واختيار البحر الأسود لإقامة هذه المناورات ليس مصادفة عادية، فالأمر يحمل رسائل واضحة وغير معلنة لتركيا بالدرجة الأولى، وفيها تأكيد لعوامل الضعف التي تواجه الانفلاش التركي الذي تمدد من ليبيا في الجنوب الغربي، مروراً بشمالي سوريا وشمالي العراق، وصولاً إلى وسط آسيا والقوقاز في الشمال الشرقي. وعبور الفرقاطات المصرية مضيقي البوسفور والدردنيل أمام أعين القوات التركية؛ يحمل تأكيداً واضحاً على الالتزام بمحددات المعاهدات التي تحمي حرية الملاحة في المياه والمعابر الدولية، وفي هذا العبور إشارة إلى أن الاتفاقيات التي حصلت منذ 100 عام- والتي ترغب تركيا في إلغائها- ما زالت سارية المفعول، لاسيما منها اتفاقيتا «سيفر لعام 1920 ولوزان لعام 1923» اللتان وضعتا قيوداً على توسّع تركيا، مقابل الاعتراف لها بالسيادة على كامل أراضيها الحالية، خصوصاً في تراقيا على الضفة الأوروبية وفي ديار بكر في الجنوب الشرقي لتركيا وفي لواء الإسكندرون على الساحل الغربي لسوريا.

تركيا واجهت الرسائل الروسية والمصرية الهادئة التي تستهدفها في ليبيا وفي شمالي سوريا وفي أذربيجان؛ بدبلوماسية حملت بعض الغزل والتطمين في جميع الاتجاهات، بما في ذلك الإعلان عن موافقتها على دعم مسيرة الحل السلمي للأزمة الليبية، وكذلك في التجاوب مع الرغبة الروسية في تغطية الحل الذي فرضته موسكو في ناجورنو كاراباخ، وتوقيف أي دعم للمسلحين المتطرفين في الشيشان. لكن هذه التطمينات التركية لم تُقنع مصر وروسيا ولا القوى الدولية الأخرى الغاضبة من الانفلاش التركي، لأن مناورات عسكرية بحرية تركية ستجري في البحر الأسود في ذات التوقيت الذي تجري فيه المناورات الروسية– المصرية، والرئيس رجب طيب أردوغان، قام بزيارة غريبة إلى قبرص التركية، داعياً الأوروبيين إلى الاعتراف بدولتين مستقلتين في الجزيرة، وبهاتين الخطوتين يكون قد أجهض رسائل التطمين، وأحرج المساعي الألمانية التي تحاول منع فرض عقوبات أوروبية على تركيا، بما في ذلك توقيف تصدير الأسلحة إليها.

لا يمكن التقليل من شأن اختيار المكان للمناورات البحرية الروسية– المصرية في هذا الوقت بالذات، خصوصاً لكون البحر السود يجمع سلة واسعة من التقاطعات الدولية الساخنة، على اعتبار أنه مجاور لمسرح الأحداث في جنوبي القوقاز، وتتفرع منه مشكلة جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014، وهناك ثروات غازية واعدة في قعر مياهه الجنوبية التي ستُجري تركيا فوقها مناوراتها القادمة التي ستُشرِك فيها تجارب على صواريخ إس- 400 الروسية المتطورة لأول مرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"