عبدالله السناوي
لكل عصر إيقاعه ونحن الآن في العصر الإلكتروني. بقوة الحقائق، فإننا أمام ثورة كبرى في وسائل الاتصال لم تتضح كامل ملامحها، مزاياها ومزالقها، ولا مدى ما قد تدخله من تغييرات على نظريات الصحافة، ولا قدر ما تؤثر في حركة الإبداع الفني والأدبي وسوق النشر.
كانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول جوهرية في إيقاع الحياة، فكل شيء سريع من الخطوة إلى الوجبة إلى المعلومات والفكر وصياغة الخبر وعدد كلمات المقال.
نشأت نظريات ومدارس في الصحافة والإعلام حاولت أن تستجيب لروح العصر ومذاقه وإيقاعه تأثراً بالنموذج الأمريكي. مع مطلع ثمانينات القرن الماضي بدأت تجربة ال(CNN).
كان ذلك إعلاناً عن «العصر الفضائي»، اتسع نطاق جمهوره وطبيعة محتواه، حتى أصبحت الثورات والحروب والجوائح والكوارث الطبيعية تنقل بالبث المباشر لكافة أرجاء المعمورة في اللحظة ذاتها.
«لكل زمن حواره وحوار هذا الزمن لا يتكلف شيئاً لفك رموز ما هو مكتوب على ورق».
«إن أي مهتم بالشأن العام سيتابع الخبر صوراً متلاحقة على الشاشات المضيئة، وهو يطلب من الكلمة أن تروي له قصة ما جرى على مهل لأن ذلك دورها». «كل أسطح الحوادث مكشوفة تحت الومضات السريعة». «الكلمة في جريدة تفصّل ما وراء الخبر وتروي ما لا تستطيع الصور أن تصفه من دخائل ومشاعر».
«في العصر الإلكتروني أريد أن أعرف ما الذي دار همساً في أية لقاءات قمة لها أهمية بعد أن رأيت الصور الملونة على الهواء مباشرة». هكذا تحدث الأستاذ «محمد حسنين هيكل» ذات حوار بيننا عن مستقبل مهنة الصحافة والإعلام في العصر الإلكتروني.
لا يملك أحد، أياً كانت دوافعه ونواياه، أن يعاند الزمن وحقائقه المستجدة. كيف نحفظ مستقبل الصحافة الورقية في العصر الإلكتروني؟
الأحكام المطلقة خطيئة كاملة. لكل شيء أصول وضرورات. الحرية أصل أول، وإلا فإن الموت السريري مؤكد أمام الحريات المتاحة بلا قيود تذكر لوسائل الاتصال الحديثة.
المهنية أصل ثان، حتى يكون هناك ما يدفع القارئ لشراء صحيفته واثقاً من صحة ما ينشر فيها أمام فوضى وعشوائية وغياب القواعد في الإعلام البديل. احترام التعدد وحرمة الحوار العام أصل ثالث أمام ضراوة انتهاك الحرمات العامة واغتيال الشخصية على صفحات التواصل الاجتماعي.
قوة العصر الإلكتروني في اتساع منصاته على التنوع والتعدد وسرعة نقل الخبر وإدخال المواطن العادي شريكاً بالرقابة على أداء المؤسسات العامة، وهو ما يغيب في العادة عن الصحافة الورقية. أسوأ ما في ذلك العصر ما يتبدى فيه من يقين مفرط في تداول الأخبار والآراء، بلا استعداد للتدقيق والمراجعة.
في منتصف ستينات القرن الماضي انتابت رائد المسرح العربي «توفيق الحكيم» أحوال قلق من مقال انتهى من كتابته للتو. خطر له أن يسأل صديقه رئيس تحرير «الأهرام» «محمد حسنين هيكل» أن يقرأ ما كتب قبل أن يدفع به إلى المطبعة.
أجابه: «يا أستاذ توفيق أنا أقرأ ما تكتب كأي قارئ آخر، أرسله إلى المطبعة أياً ما كتبت ولا تراجع أحداً».. وفي يقينه قاعدة استقرت عنده: «عندما يكون لصاحب الرأي تجربة عريضة واسمه يزكيه فهو وحده من يتحمل مسؤوليته أمام الرأي العام ولا شأن لأي رئيس تحرير بما يكتب».
ألح عليه أن يقرأ ما كتب وأن يسمع ملاحظاته. لم يكد يطالع النص ويشرع في القول: «هناك بعض ملاحظات» حتى استوقفه «الحكيم» طالباً إعادة المقال إليه ومزقه بلا تردد ملقياً أوراقه في سلة مهملات.
لم يكن «الحكيم» مستريحاً لما كتب واستبد به قلقه.. أراد أن يتأكد بنظرة أخرى يطمئن إليها أن أسبابه في محلها. القلق من طبائع الإبداع، فما هو رتيب ومألوف ومتوقع لا يلهم إبداعاً يبقى، أو يفضي إلى رؤية تختلف. في القلق سعي إلى شيء من الكمال لا يُدرك لكنه يُطلب.
استعاد تجربة «الحكيم» ذات يوم في النصف الثاني من عام (2012)، وهو يتساءل عن الأسباب التي دعتني لتغيير بنية مقال يستلهم مسرحيته: «السلطان الحائر».
قلت: «الحيرة فيها نبل وما يحدث الآن لا يستحق أن يوصف أصحابه بأي نبل».
قال: «كان عليك أن تمزق ما كتبت مثلما فعل الحكيم وتبدأ من جديد لا أن تدخل تعديلات على فكرتك الأصلية».
«في كل مرة تكتب على ورق، أو تطل على شاشة، لا بد أن يكون لديك شيء جديد تقوله لا يكرر ما اجتهد فيه غيرك».