الجنوب ومتغيرات العالم المعاصر

01:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

مع أن بلدان الجنوب نُكِبت، كثيراً من نتائج التحولات العالمية الكبرى التي أعقبت نهاية التوازن الدولي بين القطبين  شأنها في النكبة تلك شأن بلدان الشرق «الاشتراكي» التي انفرط عقدها  إلا أن بعضاً منها، ولو كان قليلاً، تأقلم سريعاً مع تلك التحولات، تأقلم ممانعة إيجابية، فكف عنه آثارها الضارة أو حدّ منها إلى حدود قابلة للاحتواء. 

والأهم من نجاحه في هذه الاستراتيجية الدفاعية/الحمائية، أنه أحسن اغتنام الفرص الجديدة التي أتاحتها نتائج تلك التحولات، والاستفادة من إمكانياتها بما ساعده على إعادة ابتناء عوامل القوة والمنعة لديه، على النحو الذي عزز قدرته على خوض منافسة ندية للقوى الكبرى في العالم.

ولقد كان صعود هذه القوى الجنوبية في سلم القوة، حقاً، هو المتغير الأكبر الذي تولد من ذلك التحول العظيم في توازنات النظام الدولي بعد نهاية حقبة الحرب الباردة.

يتعلق الأمر، في ملاحظة هذا المتغير، بدول من الجنوب سمقت في البناء الاقتصادي والتنموي، سريعاً، واحتلت فيه من المراتب ما يجعلها تُلحظ بطرف الاحترام، مثل الصين، والهند، والبرازيل، والمكسيك، وماليزيا، وجنوب إفريقيا.. والحق أن صعودها ذاك لم يغير من موقعيتها في خريطة القوة والنفوذ في محيطها والعالم فحسب؛ بل أتى بنتائجه على هيكل توزيع القوة عالمياً بالتعديل والتغيير أيضاً. هكذا انتقلت الصين، مثلاً، من دولة تقع في المراتب الخلفية إلى حيث أصبحت القوة الثانية في العالم، فيما تخطت الهند والبرازيل، اقتصادياً، كلاً من إيطاليا وكندا وأستراليا فأصبحتا تاليتين لكل من المملكة المتحدة وفرنسا في ترتيب القوى عالمياً. والمرجح أن التعديلات في سلم القوة ستتزايد، في السنوات القادمة، في ضوء اتجاه حركتي الصعود والهبوط (لمركز القوة) اللتين تسارعت وتائرهما منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.

ربما كانت الصين وحدها، من بين دول الجنوب الصاعدة، التي انصرفت إلى تعزيز قوتها الاقتصادية ببناء قدرة عسكرية موازية تحميها. ولعل ذلك يكون مفهوماً في ضوء حقائق ثلاث على الأقل: توسع نفوذ الصين الاقتصادي والاستثماري والتجاري في العالم، مع ما يقترن به من مزاحمتها لقوى ذات نفوذ تقليدي في مناطق توسع الصين، ثم بوادر الحرب التجارية الأمريكية الصينية غير المعلنة (ولكن غير المستبعدة في ظل دونالد ترامب)، وأخيراً، تحول بحر الصين إلى منطقة توتر واحتشاد عسكري، خصوصاً في ضوء سوء علاقات أمريكا بالصين وكوريا الشمالية، وتحول بحر الصين إلى أولوية استراتيجية لواشنطن في عهدها السياسي الجديد. وإذا كانت ظروف البرازيل والمكسيك وماليزيا لا تحمل هذه البلدان على حيازة قدرة عسكرية أكبر من حاجتها الدفاعية القومية، فلن يكون مستبعداً أن توغِل الصين في تطوير برامج التسلح والصناعة العسكرية، لا حماية لمصالحها الاقتصادية المتزايدة من أي تهديد خارجي/فقط؛ بل بما هي حاجة صناعية لتعظيم تجارتها وصادراتها إلى العالم، ومنافسة تجارات الأسلحة الأمريكية والروسية والبريطانية والفرنسية. وهو ما ترجِحه النزعة التجارية في نشاط الصين وكفاءتها العالية في مجالات التِقانة (التكنولوجيا) والتقانة الدقيقة.

على أن المفارقة الكبرى، هنا، وحيث نحن في معرض الحديث عن صعود قوى جنوبية كبرى، عقب انهيار التوازن الدولي، أن من هو في حكم المنتصر في الحرب الباردة (دول الغرب) يبدو كما لو أنه الخاسر في نتائج انتصاره، وآي ذلك أن مرتبية بلدان الغرب في سلم القوى العالمية تراجعت، باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية، التي حافظت على مركز التفوق في ذلك السلم حتى الآن، وباستثناء بريطانيا وفرنسا اللتين حافظتا نسبياً، على مركزيهما، وألمانيا التي عززت مكانتها، وتعرض مركز الدول الأخرى (اليابان، إيطاليا، كندا وباقي دول أوروبا) لتدهور فاحتلته، بدلاً منها، دول الجنوب الكبرى الصاعدة؛ بل كشفت عن قابلية لديها لاحتلال مراكز الصدارة في العقد القادم.

إلى عهد قريب، كانت القوى الكبرى الصناعية والتقانية التي تحتكر الثروة والنفوذ في العالم، قوى غربية حصراً، أما اليوم فالقوى العشر الكبرى في العالم موزعة على الغرب والجنوب، وهذا ليس بالمتغير القليلِ الشأن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"