العالم في مدار اللايقين

01:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

بحثاً عن سمة مشتركة للأحداث التي شهدها العقد الماضي، قد لا نجد أفضل من «عدم اليقين» سمة مشتركة جامعة لمختلف الأحداث السياسية والاقتصادية التي مرت بها المجتمعات والتكتلات الإقليمية والدولية، منذ أن عصفت المتغيرات بالشرق الأوسط، مع الحركة المجتمعية السياسية لما يسمى «الربيع العربي»، والتي تبدو لنا اليوم أنها انعكاس لأزمات تتجاوز منطقتنا إلى النظام الدولي برمته، فالعالم العربي ليس إلا جزءاً من نظام دولي عرف متغيرات عديدة، ولم يكن بإمكانه إلا أن يتأثر بها، وفقاً لمعطياته الخاصة، المشحونة بحمولات تاريخية، وأزمات متراكمة ومزمنة.

المعرفة ذاتها، بوصفها مناهج لقراءة الواقع، هي الأخرى عانت حالة عدم يقين في تقديم تحليل يمكن الركون إليه، واعتباره مرجعية لتفسير هذا الاختلال الدولي، وركيزة لإيجاد الحلول لاستقرار المنظومة الدولية، وقد يكون مرد حالة عدم اليقين التي انتابت المعرفة في العقد الماضي، هو الكم الهائل من التحولات، ونتيجة طبيعية للتأثير الواسع والمتسارع لمنتجات ثورتي التقانة والاتصالات، خصوصاً الدور الذي لعبته وسائل الإعلام غير التقليدية في صناعة الحقائق على طريقتها، ومحاولة الدول أن تهيمن على الفضاءات الجديدة، وتعيد تكييف نفسها من خلال هذه المنتجات، كما أصبح واضحاً أن جزءاً كبيراً من الصراع بين الدول انتقل إلى الفضاء السيبراني، من خلال الاختراقات للأنظمة المعلوماتية، أو التأثير في الرأي العام تجاه القضايا المصيرية. 

 فكرة التغيير، بوصفها فكرة تاريخية تقدمية، بكل ما تحمله من إرث تاريخي، خصوصاً إرث الثورة الفرنسية، واجهت وقائع جديدة. فالتعويل على إرادة الشعوب على أهميته ومركزيته في إحداث اختراق للبنى التاريخية، بدا تعويلاً مثالياً تنقصه قراءة المعطيات الجيوسياسية والدولية، فما ظهر في عالمنا العربي كحركة تغيير من أجل أهداف اجتماعية وسياسية ذات طابع استحقاقي، باتت ضرورة للخروج من انسداد الأفق، وتجاوز دولة المحسوبيات والفساد، تحول إلى صراع إقليمي ودولي، ووضع الدولة نفسها، بما تتضمنه من معطيات جغرافية ووطنية، أمام مواجهة مصير التفتت، وأعاد بعض دول منطقتنا إلى زمن الاحتلالات، كما أحيا الكثير من القيم ما دون الوطنية، مثل الطائفية والمذهبية والمناطقية، وهي قيم يفترض أنها مضادة لحركة التغيير المنشودة نفسها.

وفي الوقت الذي كان فيه عالمنا العربي «الشرق أوسطي» يفقد نظامه السياسي والأمني، كان النظام الدولي نفسه يعاني عدم القدرة على معايرة المصالح، أو التوافق على أدوار اللاعبين، كما أن الريادة الأمريكية لهذا النظام الدولي أصبحت محل شك من قبل الحلفاء والأعداء على حد سواء، فإذا كانت إدارتا أوباما وترامب وضعتا الصين أولوية في تحديات الولايات المتحدة الاستراتيجية، إلا أنهما اتبعتا استراتيجيتين مختلفتين تجاه هذه الأولوية، فقد قررت إدارة أوباما الانكفاء عن الشرق الأوسط، والوصول إلى اتفاق مع إيران حول ملفها النووي، من أجل التفرغ لمواجهة الصين، إلا أن إدارة ترامب انقلبت على هذا التوجه، وقامت بتعزيز تحالفات بلادها التقليدية في المنطقة، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.

وإذا كان الأوروبيون، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد منحوا واشنطن قيادة الأمن على ضفتي الأطلسي، واعتبروا أن هذا الأمر هو أحد الثوابت المحسومة في علاقاتهم مع الحليف الأمريكي، فإن هذا الأمر تعرض لهزة كبيرة خلال الأعوام الأخيرة، خصوصاً مع استخدام الرئيس ترامب للعقوبات ضد مشروع «نورد ستريم 2» لمد الغاز من روسيا إلى ألمانيا وأوروبا، وفرض ضرائب أكبر على منتجات أوروبية رئيسية، وهي خطوات غير مسبوقة في التعامل بين الحليفين الأمريكي والأوروبي، وهو ما أعاد سؤال الأمن الأوروبي إلى الواجهة من جديد.

الاقتصاد العالمي، وما يتضمنه من اعتماد كبير على الحدود المفتوحة أمام انتقال البضائع والمسافرين، أصيب بتغيير كبير مع إقفال الحدود المتكرر بين الدول، فقد وجه فيروس كورونا إنذاراً قوياً من أجل إعادة النظر في الأسس الاجتماعية لهذا الاقتصاد، مع دخول أشكال جديدة من الاستهلاك، وعادات حمائية لم تكن معروفة، وتشير كثير من المعطيات إلى أن نتائج وتأثيرات المرحلة الراهنة لا تزال مجهولة، لكن من المؤكد أن كل هذا القدر من العجز في تحديد بوصلة الاقتصاد العالمي ستزيد الوضع تعقيداً، ولن يكون بالإمكان  أقلّه في القريب العاجل  لا في الاقتصاد، ولا في العلاقات الدولية، الخروج من مدار اللايقين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"