قوة الثقافة اليومية

23:56 مساء
قراءة 3 دقائق

علاء الدين محمود

برز الاهتمام مؤخراً، بصورة أكبر عن السابق، بمفهوم الثقافة الشعبية، من خلال كثير من الكتابات المتخصصة، والتداول حولها في المؤسسات العلمية والثقافية؛ بل حتى إن بعض الفلاسفة والمفكرين قد دخلوا في ذلك الأمر من حيث التناول ومحاولات التأسيس النظري له، ويرجع ذلك إلى سيادة العولمة التي أرادت أن تفرض هيمنتها على كل العالم، وهو ما أنتج بالمقابل مصطلحات ومفاهيم متعلقة بالخصوصية الثقافية؛ أي حق أي بلد أو مكان ما في العالم في الحفاظ على خصوصيته الثقافية، ويشمل ذلك بطبيعة الحال، وبصورة أكبر، الثقافة الشعبية المعنية في الأصل، بإبراز تراث الأمم والدول وتعزيز خصوصيتها والحفاظ على هويتها؛ لذلك تولي الشعوب أهمية فائقة خوفاً من ذوبان تلك الخصوصيات الثقافية في محيط العولمة الهادر.

ومن المعروف أن المجتمعات تعيش بطرق معينة، من حيث العلاقات الاجتماعية، وبالتالي فإن الثقافة الشعبية تنتج من خلال تلك العلاقات، وعبر التفاعلات اليومية بين أفراد وعناصر المجتمع، ولذلك فإن الناس في ظل تعاملهم مع بعضهم البعض، ومع الأدوات والوسائل والأشياء من حولهم، يُنتجون ما يعرف بالثقافة الشعبية؛ أي أنها حية على الدوام، فهي شديد الصلة بالنشاط اليومي للبشر، وبتكوينهم وتشكلهم المعرفي، وهي على النقيض من الثقافة النخبوية التي تنتج داخل المؤسسات التعليمية، أو مختلف القطاعات، وبالتالي فإن مسألة الارتقاء بها وتطويرها (أي الثقافة الشعبية) يشبه المهمة القومية التي تتوجه نحوها مشاعر الشعوب؛ لأنها تعبر عن ذاكرتهم وهويتهم المشتركة، وهنا تبرز أهميتها القصوى، فهي التي تتحكم في قضية الانتماء وما يتعلق به من مشاعر واعية أو غير ذلك، حيث إن تشكل العادات والتقاليد والموروثات يتم من خلال التفاعل بين الناس في نشاطهم داخل المجتمع.

منتجات الثقافة الشعبية كثيرة ومتنوعة، وتشمل كل ما له علاقة بالممارسات الحياتية وبالموروث، مثل الفولكلور والمعتقدات والحكايات والخرافات والألغاز والأمثال والرقص، وكل أشكال فنون التعبير، أو كما يقول علماء الأنثروبولوجيا أو الباحثون في العلوم الاجتماعية: هو «كل ما تركه السلف للخلف». 

وتقوم الشعوب بحفظ ذلك المنتج التراثي بصورة شعورية واعية أو غير شعورية، فهي تظهر في صورة سمات وتدل على الإنسان من حيث منبته وانتماؤه، فعلى سبيل المثال يمكن لشخص أن يتعرف إلى موطن الآخر دون أن يسأله، وذلك فقط من خلال ملبسه، أو طريقة حديثه، فهذه السمات تتطور وتُنتج علامات ورموزاً، لذلك فإن تأثير الثقافة الشعبية هو الأقوى والأكثر تأثيراً. 

ولعل من أبرز المفكرين الذين اشتغلوا على مفهوم الثقافة الشعبية بغرض رد الاعتبار إليها، خاصة في جانب الأدب الشعبي، هو البريطاني جون ستوري الذي لاحظ أنها كثيراً ما يتم التعامل معها بسلبية، وكأنها ليست من الثقافة، خاصة عندما يتم الحديث في تعريفات الثقافة عن الشعر والرواية والأدب بشكل عام، نجد أن جنساً آخر من الأدب يتم إبعاده مثل الموسيقى الشعبية، وكثير من الأدب الشعبي، كما لاحظ أن المختصين يقسمون الثقافة إلى شعبية من إنتاج الجمهور، وأخرى رفيعة هي نتاج عمل فردي خلاق مبدع، وأن الأخيرة هي فقط التي تستحق القراءة والاهتمام، بينما الأولى تتطلب فحصاً، وهو ما ينفيه ستوري، عندما ضرب مثالاً بأعمال وليم شكسبير التي تقدم كمثال حي على الثقافة الرفيعة، في حين أنها كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر، تعتبر إلى حد كبير جزءاً من المسرح الشعبي، وكذلك أعمال تشارلز ديكنز، وغيرهما من أدباء برزوا في الثقافة الغربية.

الملاحظ أن الثقافة الشعبية في مجال الأدب، صارت تتحرر اليوم من التنميط والتقسيم الجزافي، وصار لها من يفوزون بجوائز عالمية على نحو المغني الشعبي الأمريكي بوب ديلان، الذي حاز جائزة نوبل للأدب عام 2016، كشاهد على اقتحام الثقافة الشعبية لهذه الجائزة الرفيعة لأول مرة، وهو ما يشير إلى أن العالم ككل بدأ في الاتجاه نحو الاهتمام بها وبآدابها، وكذلك تبذل الحكومات والدول أدواراً عظيمة في ذلك المسعى؛ لذلك تنشأ المتاحف ومعاهد التراث والبحوث، وغير ذلك مما يشير إلى أهمية ومكانة الثقافة الشعبية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"