معاني الكارثة

تشيرنوبل وآثارها في بريطانيا وفرنسا
23:06 مساء
ترجمة وعرض:
نضال إبراهيم
قراءة 8 دقائق
1
1

عن المؤلف

الصورة
1
كارينا كالمباش
كارينا كالمباش أستاذة مساعدة في التاريخ بجامعة أيندهوفن للتكنولوجيا. حصلت على الدكتوراه من معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا عن أطروحة حصلت لاحقاً على جائزة الكتاب لعام 2015 للعلماء الشباب من اللجنة الدولية لتاريخ التكنولوجيا

كانت كارثة محطة تشيرنوبل للطاقة النووية التي وقعت عام 1986 في أوكرانيا، حدثاً مهماً عابراً للحدود، ليس فقط في الجسيمات المحمولة جواً عبر نصف الكرة الشمالي؛ بل من ناحية التداعيات السياسية والاجتماعية التي أحدثتها خارج الكتلة السوفييتية. تتناول مؤلفة الكتابة هذه الكارثة وأبعادها، وتأثيراتها لدى أكبر قوتين نوويتين في القرن العشرين؛ وهما: فرنسا وبريطانيا.

يركز هذا الكتاب الصادر عن دار «بيرغاهن» في ديسمبر 2020 باللغة الإنجليزية ضمن 236 صفحة، على حالتي بريطانيا وفرنسا، ويستكشف الخطابات والروايات التي نشأت في أعقاب الحادثة بين الجهات الحكومية وغير الحكومية. كما يقدم وصفاً شاملاً للصور النمطية، والأطر والاستراتيجيات الأخرى التي شكلت استجابات دول أوروبا الغربية للكارثة، وجهودها؛ للتصالح مع عواقبها طويلة المدى حتى يومنا هذا.

 تقول الكاتبة: «بعد كارثة تشيرنوبل النووية في عام 1986، أصبح اسم هذه المدينة الأوكرانية مرادفاً لأسوأ حادث وقع أثناء الاستخدام المدني للطاقة النووية. احتفظت تشيرنوبل بهذا الوضع حتى 11 مارس/آذار 2011، عندما دمر زلزال وتسونامي جزئياً محطة الطاقة النووية اليابانية في فوكوشيما. كان الانهيار في تشيرنوبل، المصنف ضمن الفئة 7 على مقياس الأحداث النووية والإشعاعية الدولية، يعد بالفعل أسوأ حادث يمكن أن يقع في محطة للطاقة النووية. من الناحية الفنية، انتهى الانهيار الفعلي، ويُنظر إلى تشيرنوبل على أنها حدث من الماضي، لكن مع ذلك، لم تنتهِ العواقب بعد. كما هو الحال مع الحرب، فلها ندوب نووية عميقة. فالآثار محفورة في البيئة وفي أجساد الناس وفي ذكرياتهم. كما أن التوقيع على معاهدة سلام لا ينهي المعاناة.. ولا يعني دفن قلب المفاعل المدمر تحت أطنان من الخرسانة أن الأشخاص الذين تم إجلاؤهم يمكنهم العودة إلى منازلهم ونسيان ما حدث ببساطة».

 ترى المؤلفة أن مقارنة كارثة تشيرنوبل بمشهد حرب ليس مجرد نتيجة لعملية تفكير إبداعي مشروطة بشدة بالبحث؛ إذ تروي العديد من الروايات الأوكرانية والبيلاروسية كيف أن الكفاح الذي خاضه رجال الإطفاء وعمال الإنقاذ كان معركة ضارية ضد عدو: المفاعل المحترق. فقد ارتبط الضحايا والدمار والتهجير الناجم عن هذا المفاعل المحترق بعواقب الحرب العالمية الثانية. قد يبدو عدم التناسق في مثل هذه المعادلة واضحاً عندما نتذكر الملايين الذين قتلوا في ساحات المعارك وفي معسكرات الاعتقال، وقد تبدو هذه المقارنة غير مناسبة، لكن هذه الروايات عن تشيرنوبل موجودة حقاً. ومع ذلك، توصف تشيرنوبل أيضاً بأنها حادثة صناعية متوسطة الخطورة تسببت في عدد قليل من الوفيات، وزادت بشكل طفيف من احتمال حدوث سرطانات مميتة لدى السكان الذين تعرضوا لها، وبعبارة أخرى هناك تأثير صحي طفيف مقارنة بالعدد السنوي للوفيات الناجمة عن حوادث الطرق أو تدخين السجائر.

 تعلق الكاتبة: إذاً، ماذا تعني عبارة «أسوأ حادث وقع في الاستخدام المدني للطاقة النووية؟» بالنسبة للبعض، تعد تشيرنوبل دليلاً على وجوب التخلي عن هذه التكنولوجيا عاجلاً وليس آجلاً. ومع ذلك، بالنسبة للآخرين، تثبت تشيرنوبل أن هذه التكنولوجيا من بين أفضل أشكال التكنولوجيا التي اخترعها الجنس البشري حتى الآن. كيف يمكن تفسير نفس الحدث بهذه الطرق المختلفة؟ قد يجادل البعض: الأمر المثير للدهشة في حقيقة أن شخصاً في بيلاروسيا، لم يفقد أحبابه فحسب؛ بل منزله أيضاً، ومُحي مسقط رأسه من الخريطة، سيؤطر الحدث في ضوء مختلف عن مهندس تكنوقراطي في فيينا، مكلف بحساب احتمال وقوع نفس الحادث بالضبط في محطة طاقة نووية مختلفة، ليس من المستغرب على الإطلاق أن يعطي شخصان معنى مختلفاً لتشيرنوبل.. ولكن ماذا لو وجدنا هذه التفسيرات المتباينة في المجتمعات التي تعد منفصلة عن الحدث، جغرافياً وسياسياً؟ ماذا لو سمعنا روايات وتفسيرات مختلفة تماماً لأسباب وعواقب الحادث، حتى بين المجموعات المختلفة داخل هذه المجتمعات؟ هل سيشكل هذا أساساً صالحاً للتحقيق في أصل هذه الروايات والتفسيرات المختلفة، وللبحث عن تفسيرات لكيفية ظهورها؟

 مقاربة الكاتبة هنا لمفاهيم مثل السرد والتفسيرات هي تحليل للخطاب، ولا تهدف إلى إضافة «الحقيقة» الخاصة بها إلى حقائق أخرى حول تشيرنوبيل كما تذكر، وتضيف أنها لا تجد نفسها في وضع يسمح لها بالحكم على صحة أي من «الحقائق»، قائلة: مما لا شك فيه أن العديد من المعايير يمكن أن تبرر مثل هذا الحكم مثل السلطة العلمية أو السياسية للشخص أو المؤسسة لإلقاء بيان معين، أو عدد الأشخاص أو المؤسسات التي تقتبس هذا البيان؛ لكن الحكم على هذه «الحقائق» المتنافسة بهذه الطريقة سيكون بمثابة كشط السطح بدلاً من التحقيق في الخطاب؛ لذلك تسأل: هل هذا البيان يعد صحيحاً؟ بل بالأحرى: لماذا تم نشر رواية معينة في وقت معين من قبل شخص أو مؤسسة معينة، وما معنى ودلالة هذه الرواية؟

 مقارنة بين فرنسا وبريطانيا

تمتلك فرنسا وبريطانيا تاريخاً مشتركاً، حيث كانتا في القرن العشرين تعدان القوتين النوويتين الوحيدتين في أوروبا الغربية. هذا العامل لم يشكل فقط التاريخ التكنولوجي لكل بلد من الاستخدام العسكري للذرة؛ بل شكل أيضاً تطورات الهندسة النووية المدنية في البلدين.

 تقول الكاتبة: كجزء من تطبيقاتها العسكرية، كان الاستخدام المدني للطاقة النووية محكوماً بسياسات تلفها السرية. علاوة على ذلك، لم تكن محطات الطاقة النووية مجرد محطات طاقة، في فرنسا أو في بريطانيا. تزامن افتتاح المصانع الأولى مع تظاهرات مكثفة تعبّر عن الفخر الوطني؛ تعبيراً عن أن بإمكانهم إتقان صناعة هذه التكنولوجيا، وأن المهندسين العباقرة هم مواطنون في دولتهم. لم يعكس الوضع المشترك للقوى النووية الدور المحدد المنسوب في وقت مبكر إلى الاستخدام المدني للطاقة النووية فحسب؛ بل كان يعني أيضاً أنهم واجهوا انتقادات من شرائح من مجتمعاتهم التي تشكك في هذه التكنولوجيا. على الرغم من اختلاف هذا النقد بين البلدين - في فرنسا كان موجهاً للاستخدام المدني للطاقة النووية، وفي بريطانيا للاستخدام العسكري - ظهرت حركات بيئية ومناهضة للطاقة النووية في البلدين، دفع إلى تشكيل خطابهما الوطني حول التكنولوجيا النووية. منذ ذلك الحين، تذبذب الدعم العام والسياسي للاستخدام المدني للطاقة النووية في البلدين. على الرغم من أن تطورات كل منهما لم تبدأ في الوقت نفسه ولم تتطور بشكل مماثل، فقد أظهر البلدان دعماً سياسياً قوياً للنهضة النووية منذ أوائل القرن الحادي والعشرين.

 وترى المؤلفة كارينا كالمباش أنه مع وجود الكثير من أوجه التشابه، قد نتوقع أن تكون ردود أفعالهم المباشرة على كارثة 1986 والنقاشات التي تلت ذلك حول تأثيرها متشابهة أيضاً. ومع ذلك، فإن هذا ينطبق فقط على جانب واحد: ردود الفعل المباشرة في عام 1986، لا سيما من مصادر رسمية مثل الحكومة أو وكالات الحماية من الإشعاع. ومع ذلك، فإن المناقشات بشأن تأثير تشيرنوبل الذي سيتكشف في السنوات القادمة لم يكن من الممكن أن يتطور بشكل مختلف.

 وتضيف: بعد أن أصيبوا بمستويات مماثلة من التساقط الإشعاعي، تأكد الناس في البلدين أنه لن تكون هناك تداعيات صحية. فالبيانات الرسمية الصادرة في الوقت المحدد مفادها: لقد وقع الحادث بعيداً جداً؛ بحيث لا يمكن أن يكون هناك أي آثار علينا، وحتى إذا وصلت كمية قليلة من النويدات المشعة المحمولة جواً إلى البلدان، فإن مستويات المخاطر المرتبطة بها ستكون هامشية. علاوة على ذلك، وفقاً لهذه التصريحات الرسمية، لم تكن هناك أي أسباب للتشكيك في سلامة البرنامج النووي الوطني، لأن الحادث كان بسبب مجموعة من العناصر الخاصة جداً: التكنولوجيا السوفيتية (وبالتالي أدنى مستوى)، والتصميم الخاطئ للمفاعل والأخطاء البشرية لعمال المصانع».

 ردود الفعل الشعبية والرسمية

 تحلل الكاتبة هذه التصريحات، وكيف تم إيصالها وكيف كان رد فعل الجمهور والجماعات والأفراد عليها. وتشير إلى أنه على الرغم من نقطة الانطلاق المماثلة بين فرنسا وبريطانيا في عام 1986، تطورت نقاشاتهما حول تأثير تشيرنوبل بطرق مختلفة تماماً. ففي فرنسا، تم توظيف تشيرنوبل في «الذاكرة» (موقع الذاكرة، والذي يشير إلى عنصر رمزي للتراث التذكاري للمجتمع) وأصبحت نقطة مرجعية مشتركة في مناقشات الطاقة النووية وكذلك حجج السياسة العامة الأوسع. في بريطانيا، من ناحية أخرى، تم نسيان تشيرنوبل عملياً تقريباً، بحيث يتوجب ألا يؤثر حادث تشيرنوبل في السياسات النووية الوطنية.

 كما تتناول الكاتبة كيف نظرت فئة أصحاب نظرية (رهاب الإشعاع / نهاية العالم) إلى التقييمات المختلفة للوضع في مناطق أوروبا الشرقية الأكثر تأثراً بالتساقط الإشعاعي. يشير مفهوم رهاب الإشعاع إلى أن الزيادة في الأمراض التي لوحظت في هذه المناطق لا تعود في الواقع إلى الإشعاع نفسه؛ إنه نتيجة الخوف المفرط من الإشعاع والضغط النفسي الناجم عن إعادة التوطين والوضع السياسي المتغير بسرعة في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. ويعني هذا المفهوم ضمنياً أن هذا الضغط قد تعزز بسبب عدم الثقة في السلطات الطبية والسياسية، ما أدى إلى زيادة شكوك الناس وقلقهم بشأن صحتهم وصحة أطفالهم. لتجنب قول «رهاب الإشعاع» - لأن هذا المصطلح فقد مصداقيته في أوائل التسعينات - في الأغلب أعادت المصادر تسمية هذه الافتراضات بأنها «أمراض ناتجة عن الإجهاد». من وجهة نظر «رهاب الإشعاع»، فإن أفضل علاج للأمراض هو إعادة المناطق إلى طبيعتها وإعطاء السكان الذين أعيد توطينهم حوافز؛ للعودة إلى مناطقهم الأصلية. الطرف الآخر من مقياس التقييم هو صورة مروّعة. فهذه القراءة للموقف تعد أن الأسوأ لم يأتِ بعد؛ نظراً للطفرات الجينية في البشر والنباتات والحيوانات؛ حيث إن التأثير الحقيقي لن يظهر إلا بشكل كبير جداً تدريجياً، وليس هناك ما يمكن لأي شخص فعله لوقف هذه العملية. من هذا المنظور، يجب اتخاذ تدابير لإعادة توطين قطاعات أكبر من السكان المتضررين.

 تنظر المؤلفة في رأي فئة أصحاب الصور النمطية المعادية لأوروبا الشرقية / المعادية للسوفييت، وترى استخدام نوع من خطاب الحرب الباردة؛ حيث يعلق العديد من الروايات حول تشيرنوبل من ناحية استهلاك الكحول والتعامل غير الحكيم بشكل عام مع التقنيات الخطرة داخل الاتحاد السوفييتي، وتقارنها ببيانات حول السلوك الجيد المصمم في الغرب. ومع ذلك، فإن الجهات الفاعلة الأخرى ترفض هذه الاتهامات بشكل قاطع، معتبرة إياها دعاية تهدف إلى التستر على المشاكل في المبادرات النووية الغربية. وبذلك أصبحت سرديات تشيرنوبل بياناً ضد المعارضة السياسية في خطاب الشرق والغرب.

 بدلاً من الحكم على أي من وجهات النظر هذه إلى حد ما على أنها «صحيحة»، تركز الكاتبة هنا على كيف يسود إرث دعاية الحرب الباردة والانحياز الجانبي في مناقشات تشيرنوبل، وكيف أثرت في تفسيرات الحادث. ومع ذلك، في مارس 2011، اكتسبت قضية الصور النمطية الثقافية وردود الفعل على حوادث المفاعلات النووية زخماً جديداً. فقد وضع العديد بعد فوكوشيما إطاراً نمطياً مشابهاً لتشيرنوبل. لكن أحد العناصر الحاسمة لم ينطبق في 2011، وهو الحرب الباردة. ومع ذلك، سرعان ما تم ملء هذه الفجوة في الهيكل السردي بشيء يشبه العنصر المناهض لأوروبا الشرقية / ضد الاتحاد السوفييتي، وهو الصورة النمطية لمفهوم التسلسل الهرمي المتجذر في اليابان.

 على الرغم من أن الكاتبة لا تقدم نظرية عامة حول كيفية تحليل الخطابات المتعلقة بالحوادث النووية، فإن تصنيفاتها التحليلية ونتائجها وفرضياتها يمكن أن تكون مفيدة للباحثين الذين يتعاملون مع كوارث (نووية) أخرى. ومع ذلك، فإن بحثها لا يتعلق فقط بحوادث تشيرنوبل والحوادث النووية، بل يلقي الضوء أيضاً على جوانب مهمة من التاريخ الاجتماعي والثقافي لفرنسا وبريطانيا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن المترجم

نضال إبراهيم

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

المزيد من الكتب والكتاب

1
زاندر دنلاب
1
ميريام لانج وماري ماناهان وبرينو برينجل
جنود في كشمير
فرحان م. تشاك
1
داون سي ميرفي
1
مايكل كريبون
لاجئون سوريون في تركيا
لميس علمي عبد العاطي
1
ديزيريه ليم
1
جيمي دريبر