أجيال جديدة ومفاهيم مختلفة

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

صدر لي كتاب في مطلع تسعينات القرن الماضي بعنوان «حوار الأجيال»، ذلك أنني لاحظت منذ ذلك الوقت أنه مثلما نتحدث عن صراع الطبقات في المجتمعات المختلفة، فإن هناك صراعاً آخر مكتوماً، هو الصراع بين الأجيال، ولكنني وجدت أن كلمة الصراع في هذا السياق ستبدو جافة ومؤلمة، فاخترت بدلها كلمة أخرى، هي حوار الأجيال؛ لأن التواصل بينها لا يسمح بالصراع بمعناه المفهوم، ولكنه يقوم على حق الاختلاف المشروع بين المستويات العمرية المختلفة.

فالبيئة الحاضنة تتغير والمناخ العام يتحول، وما كان مقبولاً في عصر قد لا يصبح كذلك في عصر آخر، وكذلك ما رفضه الآباء والأجداد يمكن أن يقبله ويتعايش معه الأبناء والأحفاد، ولابد من أن أعترف هنا بأن التميز في جيل معين هو وسام على صدر الجيل الذي سبقه، أو هي كما نقول أحياناً، «جيل يبني وجيل يجني».. تلك هي طبيعة الحياة وفلسفة الوجود والتعبير الأدق عن العلاقة بين الأب والابن، وبين الأستاذ والطالب، وفي كثير من الأحيان يتأمل المرء ما جرى، فيشعر بأن دورة الزمن قد تقلب الموازين، وتُبدّل الأحكام وتغير المعطيات المطروحة، وفقاً لتطور معين أو حدث بذاته. 

ولقد عايشت شخصياً فترات متعددة في ظل أنظمة مختلفة، وآمنت في النهاية بأن هناك قواسم مشتركة بين الأجيال لا تختلف في أصولها، ولكن هناك عوامل تحكم ذلك الاختلاف عندما يثور أو تمهد له، وأرصد منها المناخ الفكري والمستوى التكنولوجي، ومساحة الحرية المتاحة. ولو أردنا أن نفصل في هذا الشأن، فإننا نطرحها في النقاط الثلاث التالية:

أولاً: يعد المناخ الفكري هو الإطار الشامل الذي يتحرك فيه كل جيل؛ لأنه يقدم الخلفية التاريخية لحركة ذلك الجيل، والتأرجح ما بين الانفتاح والانغلاق. ففي عصور الظلام يفرض المناخ الفكري القاتم ظلاله الكئيبة على جيل معين؛ بل وربما لعدد من الأجيال التالية له، ويدخل بالطبع في مفهوم المناخ الفكري، دور الأديان ومساحة التسامح بين العقائد الدينية والأيديولوجيات السياسية. فأوروبا في العصور الوسطى شهدت مخاضاً فكرياً نجمت عنه أفكار ذات طبيعة مادية في أعقاب الثورة الصناعية فكان من بينها «الماركسية» و«الداروينية» و«الفرويدية»، وهي في مجملها تلتقي داخل إطار مادي بدأ من القارة الأوروبية وأثر في العالم كله، حتى منتصف القرن العشرين، حيث ظهر تأثير عامل آخر أكثر فاعلية وأشد حدة، أعني به ذلك الناجم عن التطور التكنولوجي.

ثانياً: لا شك في أن التقدم التكنولوجي الكاسح والتطور المهول في وسائل الاتصال قد تركا تأثيراً ضخماً على الأجيال التي ارتبطت به واعتمدت عليه، فلعبت التكنولوجيا الحديثة دوراً رئيسياً في تشكيل شخصية كل جيل، وتشكلت منها اهتماماته حتى أصبحنا نُطلق أحياناً عبارة «جيل الترانزستور» أو «جيل التلفزيون» أو «جيل المحمول»، ولعلنا نلاحظ الآن، أن وسائل التواصل الاجتماعي قد سيطرت بشكل عام على خطاب الحوار المتبادل بين الأجيال؛ بل بين أطراف الجيل الواحد. إن العالم الذي يتقدم بخطى واسعة ويحقق قفزات هائلة أصبح يشعر بضرورة مواكبة الأجيال الجديدة لفهم موضوعي لما فعله جيل سابق أو سوف تفعله أجيال قادمة.

ثالثاً: سنظل نتذكر أن قدرة كل جيل على التحرك، وكذلك درجة حيويته أيضاً، ترتبط بذلك الأمر المتصل بالعامل الثالث وهو هامش الحرية المتاح لكل جيل، ومساحته الكلية؛ لأن الإمكانات الكامنة لدى كل جيل لا تظهر إلا في مناخ الحرية والإحساس بالقدرة على التحرك في الاتجاهات التي يراها صائبة من وجهة نظره، دون وصاية عليه أو ضغوط تغير من مساره.

أريد من هذه الملاحظات أن أُشدد بقوة، على قدرة كل جيل على صنع شخصيته، وحفر مكانته مهما كانت العقبات والتحديات والمشكلات، وسوف نظل نكرر دائماً، أهمية كل جيل في بناء الأجيال التالية وصوغ شخصيته وتأكيد مكانته. ولا شك في أن التعليم والثقافة والإعلام، وكذلك المؤسسات الدينية تلعب كلها دوراً في صنع الثقافة المسيطرة على كل جيل بخلاف سابقيه، وربما بخلاف لاحقيه أيضاً. 

وواقع الأمر أن الحديث عن تعاقب الأجيال لا بد أن يجذبنا نحو التأمل في مستقبل الجنس البشري على كوكب الأرض، فلقد لاحظت في الأشهر الأخيرة  ومع تصاعد موجة الوباء العالمي (كورونا)  أن الناس بدأوا يدركون أن الفارق بين الحياة والموت هو خيط رفيع؛ لذلك فإن مستقبل الإنسانية يبدو معلقاً على مزيد من البحوث الطبية والدراسات العلمية التي ترفع البلاء عن الإنسان في كل مكان، ولا شك في أن لكل جيل تحدياته التي قد لا تكون معروفة لدى الجيل الأب؛ لأن الدنيا تتطور والعالم يتغير، وليس منا من يستطيع التنبؤ بما هو قادم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"