الشعر يحيي اللغة

22:42 مساء
قراءة 3 دقائق

علاء الدين محمود

 

«ولولا خلالٌ سنها الشعرُ ما درى

بغاةُ الندى من أين تؤتى المكارمُ». 

هكذا تحدث أبو تمام شعراً، وهو يبرز أثر الأدب والإبداع في حياة الشعوب، وبصورة خاصة الشعر، الذي يتناول في موضوعاته حتى التفاصيل اليومية، والخصال التي تتفرد بها كل أمة، وعاداتها وتقاليدها وملاحمها وبطولاتها وخصائصها، وهو لا يصور ذلك وينقله فقط، بل يحض هو الآخر على المكارم والنبل والأخلاق الرفيعة، لذلك كانت لكل ثقافة قصائدها وملاحمها، ويأتي الاحتفال بالشعر ليشكل لوحة زاهية الألوان تعبر عن تلاقي الألسن وتحاورها.

 إن الاحتفاء بالشعر هو احتفال باللغات، وهو كذلك تعزيز لمكانة الشاعر في المجتمع، وما يفعله باللغة، وفي هذا السياق يرى هايدجر، أن الشعر يظهر ما يظل خافياً في اللغة «العادية»؛ بمعنى أن الشاعر يرفع من مستواها، فهو لا يظل حبيس ما هو سائد في استخداماتها اليومية، فبحسب هايدجر، فإن كل شعر يقول جوهر اللغة، فالشعر هو اللغة الأصلية للشعب، لذلك فإن الشاعر يكتشف الغريب والشاذ والمهجور من مفردات وألفاظ ويولد الدلالات ويجري المقاربات، ويدرج كل ذلك في سياق النص الشعري، بالتالي هو يعيد أحياء اللغة في كل مرة، وذلك ما كان يفعله عبقري العرب أبو الطيب المتنبي، فهو لم يكن يبحث عن الإدهاش أو التفوق على الأقران من الشعراء كما صوره أعداؤه، بل كان يخوض رحلة بحث عظيمة داخل مجاهيل اللغة العربية، ليكتشف بدوره العالم من خلال اللغة، ولعل ذلك ما قصده الشاعر حافظ إبراهيم عندما قال: 

أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامنٌ

فهل سألوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتي.

وهل كانت مصادفة أن يحمل ذلك النص الشعري لحافظ إبراهيم عنوان «اللغة العربيَّة تنعى حظّها بين أهلها»؟ بالطبع لا، فهو يعبر عن هم الشاعر باللغة، وبذله اليومي في سبيل الحفاظ عليها وإحيائها وتطورها.

وعندما ترتقي اللغة وتزدهر، يتطور معها الشعر، فتلك عملية تشير إلى علاقة جدلية بينهما، وتقدم الشعر يشبه تماماً التطور في كل مناحي الحياة الاجتماعية والإنسانية الأخرى، من عادات وتقاليد وغير ذلك، ويقع عليه نفس ما يقع على تلك القيم الاجتماعية من محاولات للحيلولة دون تطورها، فينبري تيار يحاول أن يقمع ذلك التقدم بحجة الحفاظ على القديم، وهي مسألة سائدة في كل الحضارات، فاللغة جزء من المجتمع، وذلك ما ذهب إليه فلاسفة بحجم ميشيل فوكو وبيير بورديو، فعلى سبيل المثال فإن الانتقال من تقاليد الشعر القديمة إلى الحديثة في أوروبا قد وجد عنتاً كبيراً، وكذا الأمر جرى في اليابان، فإن رحلة القصيدة من ذلك النمط الطويل إلى القصير المقطع أو ما يسمى بالهايكو لم يكن أمراً يسيراً بل صعباً وبالغ التعقيد، وكل ذلك يشير إلى مكانة الشعر الكبيرة في حياة الشعوب والمجتمعات.

وفي العالم العربي، كان الانتقال من الشعر العمودي إلى التفعيلة ثم النثر، صعباً، وجرى حوله الكثير من الجدل، وهو أمر لا يزال قائماً، وتكمن المفارقة في أن الأقدمين أنفسهم قد تركوا قوس الشعر مفتوحاً في اتجاه التغيير، وفي هذا الصدد يقول ابن رشيق في كتابه «العمدة»: «فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن»، فلا قيمة ولا فضل للوزن ولا للقافية، إن لم يشتغل الشاعر بصورة حقيقية وجادة على مستوى اللغة والتعبير واكتشاف المعنى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"