مطبعة الأمن الدولي

00:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

هل يُصدق إنسان أن خمسة في المئة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن منذ تأسيسه حتى اليوم موضوعها لبنان الذي لا يكاد يساوي حياً من أحياء نيويورك في منظومة الدول في الأرض؟

 أصدر هذا المجلس الدولي منذ عام 1978 حتى اليوم 82 قراراً في المسألة اللبنانية ركّزت، في نصوص ثابتة متكررة حرفياً طلب «وقف العنف وحماية المدنيين واحترام سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أبنائه، وبسط السلطة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية». منذ اتفاق القاهرة (3 نوفمبر 1969) الذي فشل في تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان إلى القرارين الأخيرين اللذين وسعا انقسامات اللبنانيين أعني ال 1559 (2 سبتمبر 2004) الناطق بحل الميليشيات اللبنانية ثم ال 1701 (13 أغسطس 2006) النص الأطول في تاريخ القرارات الدولية المطالب بنزع أسلحة كل المجموعات المسلّحة في لبنان، يتخبّط اللبنانيون في أجواء لا تعمّر دولاً؛ بل تعجز عن تحملها كبريات الدول التي تُصدرها. مر هذا الزمن الطويل وبقيت فرنسا وأمريكا وبريطانيا ودول المجموعة الأوروبية ومعظم الدول العربية وقوات اليونيفيل في بلادنا بهدف وضع حد للاقتتال وإرساء الاستقرار المستحيل في البلاد.

 قمت بهذه العملية الحسابية البسيطة متصفحاً بدهشة تاريخ الدم والضيق اللبناني، متابعاً المحللين والخبراء والعاديين من الناس أو مشاركهم الانهماك والشجار والمناقرة خلف الشاشات مثل الصبية الصغار عند تناول النصوص الدولية والخلاف على معانيها وألغازها وتداعياتها.

 مهلاً! لا يعني هذا الحساب التحريض على الخروج من إرادات الدول ونصوصها الدولية، خصوصاً أننا بلد صغير وكان في طليعة المنضمين إلى الأسرة والمؤسسات الدولية؛ بل يعني أن نشغل مقاعدنا ونصحح أخطاءنا لأن لا أحداً يقرّر عنّا. هذا هو الحال والسؤال:

 ماذا جنى اللبنانيون من التشاطر في تشابكات الدول ومصالحها المتبادلة غير التهجير والهجرة بعد القتل والتشويه والتدمير والاستمرار بشحذ الاستقرار فوق أرصفة ودوائر الأمم؟

 من حقنا التساؤل: هل فقدنا ذاكرتنا الوطنية بالمعنى السياسي والدموي، أو أننا لم نستيقظ بعد على أن الحبر الدولي لم ولن يخرجنا من مستنقعاتنا الدموية؟

 إننا في زمن من الصراع الدولي، تبدو فيه الأمم المتحدة وكأنها مطبعة للقرارات الدولية أكثر منها ضابطة لناصية السلم والأمن الدوليين؟

 ماذا نفعل إذاً للخروج من هذا الأتون الدائم الصراع في عالم لا مكان فيه سوى للأقوياء؟

ولماذا يستمر اللبنانيون وقوداً لحروب وصراعات لا تنتهي في الشرق الأوسط أو أنهم يتركون وطنهم مشتعلاً ومتعباً مصدقين بعد بأن نصيبهم في موقعهم الباهت فوق خطوط التماس الكثيرة جداً بين الشرق والغرب؟

 وأكثر من ذلك: من يحدد بعد اليوم أين يقع هذا الشرق أو الغرب.

 ألوف الأسئلة من هذا النوع، والإجابات مزيد من تشويه تاريخهم بما يركّز انقساماتهم التاريخية البائدة والدائمة في الشكل والمضمون وكأن الانقسام ثقافة وطنية من الولادة إلى الموت، نراها في أساليب عيشهم وتطلعاتهم وتكاذبهم وعنادهم وتشاوفهم وتناقضاتهم وتبعياتهم وتقديم مصالحهم على مصالح وطنهم. حكومات غبرت وبرلمانات تبدلت ووثائق وأوراق كثيرة لوفاقهم وضعت في الداخل والخارج لوطنهم، ورؤساء اغتيلوا أوماتوا وعائلات كثيرة سياسية انطفأت واندثرت، وملايين هاجروا نهائياً وبقوا حاملين لبنانهم حقائبهم وانقساماتهم معهم حيثما حلوا إلى درجة تمايزهم الذي يتغنون به ويثير سخرية الآخرين.

 يشابه الكثير من اللبنانيين حبوب البقول ذي الفلقتين مثل الحمّص أو الفول أو الترمس يستحيل أن يخرج من نصفها نبتة خضراء ولو طُمر في الأرض وتم ريه. لا خلاص إلا بوحدة النصفين بشكل متكامل والخروج النهائي من الانقسام والفصام.

 لم ولن يشكّل اللبنانيون وطناً وهم منقسمون في الشكل والخطاب والمضمون والمذهب والدين، وبين الغرب والشرق وعرب وعرب وحول المسائل الدستورية وقوانين الانتخابات النيابية المملة إلى الأنظمة والقوانين والمسائل البسيطة. والخلاصة لأنهم منقسمون حتى في نشيدهم الوطني الذي يبدأ ل: «كلنا للوطن» وكأنهم قبل النشيد لم يكونوا جميعاً للوطن الواحد؛ بل اعتادوا الرقص فوق حد السيف يمدون بمناقيرهم الطرية في الأرجاء، وكلما تجذّروا في وطنهم ترسّخوا في انقساماتهم؛ إذ يبدو جمعهم جغرافياً أو بشرياً أو طائفياً أو مذهبياً أو اقتصادياً أو فكرياً في الاستحالة، ولهذا هم مقيمون في قلب النار وملعب الأمم وفي الأحاديث المسلية لضجر رؤسائها وسفرائهم ومبعوثيهم.

 لربما يبقون هكذا بانتظار خروج أدبيات الحبر الدولي من الأقلام والنصوص من اللازمة الأبدية تجترها قرارات الأمم المتحدة وتقارير أمنائها العامين وفيها:

«أتطلع إلى تحقيق سلام شامل وعادل ونهائي في الشرق الأوسط»

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"