جدلية الصعود والهبوط

00:29 صباحا
قراءة دقيقتين
افتتاحية الخليج

إن جدلية الصعود والهبوط قائمة منذ الأزل، وتنطبق على الإنسان الفرد والأمم والدول والإمبراطوريات، وتؤكدها الأدلة وشواهد التاريخ، كما تؤكدها دراسات العلماء والمؤرخين. ثم إن تاريخ الإنسانية حافل بأمثلة كثيرة على صحة هذه الجدلية. 

فالعالم والمفكر الموسوعي ابن خلدون يقدم نظرية متكاملة ومتماسكة حول المراحل التي تعيشها المجتمعات منذ نشوئها ثم أفولها.

وفي السنوات الأخيرة بدأت النظريات تتوالى حول حتمية سقوط الإمبراطورية الأمريكية، وتحديد أسباب ذلك، من منطلق أن نهايتها تأتي عندما تبلغ أقصى توسعها، وتعجز عن تحمل عبء هذا التوسع، ويستشهد أصحاب هذه النظرية بمصير الإمبراطورية الرومانية التي نشأت في القرن الأول قبل الميلاد واستمرت ألف عام، والتي كانت سيطرت على العالم آنذاك على أساس قوتها العسكرية والاقتصادية الهائلة بمقاييس ذلك الزمان. كما يعتمد هؤلاء على التحليل الجدلي الدياليكتيكي الذي يتم فيه فهم الحاضر من خلال فهم الماضي الذي يربط روما بأمريكا من حيث الطبيعة الاستغلالية للنظام، والتوسع في السيطرة، والإفراط في استخدام القوة لتحقيق هذا الهدف.

الكاتب والمفكر الأمريكي فريد زكريا مثلاً، يتلمس في كتابه «العالم بعد أمريكا»، آفاق سقوط الإمبراطورية الأمريكية، ويرى أن سقوط الإمبراطوريات مثله مثل فشل أية أمة، له أيضاً سيناريو من خطوات محددة تمر بها الإمبراطورية على طريق الغرق.

مفكرون كثر خاضوا أيضاً معمعة الصعود والهبوط لاكتشاف عواملها الداخلية والخارجية، في حالة أشبه بتعاقب الليل والنهار، ومن بين هؤلاء المفكر الألماني هيرفريد مونكلر الذي تحدث في كتابه «الإمبراطوريات» عن الإمبراطوريات الكونية المتعاقبة وكيفية سقوطها، ويرى أن هناك مظاهر تفكك بدأت تظهر في الإمبراطورية الأمريكية، ولكن من دون وجود بديل إمبراطوري جاهز حتى الآن، لكن بما أن الكتاب صدر عام 2006، فيمكن القول إن الصراع القائم بين الولايات المتحدة والصين هو أحد مظاهر الصراع حول البديل المحتمل.

الكاتب والمؤرخ الأمريكي بول كينيدي ينصح في كتابه «صعود وسقوط القوى العظمى»، الولايات المتحدة بكبح إنفاقها العسكري وحروبها الخارجية، وزيادة إنفاقها على القطاع المدني، وذلك من أجل ضمان البقاء كقوة، أو تأجيل أفولها أمام القوى العالمية الصاعدة الأخرى، مثل الصين واليابان والاتحاد الأوروبي. ويقارن بين حال الولايات المتحدة الآن وبين بريطانيا قبل أفول نجمها، ويقول إنه كلما ازداد الإنفاق العسكري فإن ذلك يأتي على حساب النمو الاقتصادي، ما يقود في النهاية إلى انكماش الاقتصاد ومزيد من الضرائب، ثم الضعف المتزايد في تحمل العبء الدفاعي.

حتى إن وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت جيتس يدعو في كتابه «القوة في السياسة» إلى إعادة النظر في السياسة الأمريكية المعتمدة منذ نهاية الحرب الباردة، والاعتماد على الأدوات غير العسكرية في تنفيذ السياسة الخارجية، داعياً إلى خوض الصراع مع الصين وروسيا بأدوات غير عسكرية، والتخلي عن الاعتماد المفرط على القوة العسكرية. 

انطلاقاً من كل ذلك، من الواضح أن الولايات المتحدة تعيش مرحلة الهبوط المتدرج من دون كوابح حتى الآن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"