الهندسة السياسية «الجديدة»

00:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

في مقابل دولٍ حديثة كبرى، في الغرب، باتت أنظمةٌ سياسيّةٌ منها تُصْنَع بفعل فاعلٍ «سياسيّ» جديد هو المال (والإعلامُ مِن عُدّته) بدلاً من الأحزاب والقوى السّياسيّة، تعرّضت دولٌ صغرى من عالم الجنوب، في سياق عولمةٍ مسلّحةٍ متوحّشة، لعمليّاتٍ من التّفكيك والتّفتيت مختلفةٍ أسفرت فيها عن إنجاب أنظمة سيّاسيّة فسيفسائيّة التّكوين: عصبويّة ومناطقيّة، تفتقر إلى الحدّ الأدنى من التّمثيل الوطنيّ الجامع، وتتعثّر في تمثيلٍ فئويّ أهليّ متنافر المكوّنات. ولقد كانت تكفي هذه الهندسة السّياسيّة لدولٍ مستباحةِ السيادة، وللنّظام فيها على هذا المقتضى الفسيفسائيّ المتنافر لأن تُهيّئ، في داخلها الاجتماعيّ والسّياسيّ، الأسبابَ كافّة؛ لتوليد أزْمات متعاقبة فيها تتعصّى على أيّ حلّ؛ بل وتصبح وقوداً لإشعال فتن وحروب أهليّة فيها على حصص مكوّناتها في السّلطة أو الثّروة أو فيهما.
 لم يكن تفكيك الكيانات القائمة سياسةً جديدة تماماً؛ فهو بدأ في البلدان «الاشتراكيّة» قبل ثلاثين عاماً، فأذهبَ وحدةَ كيانات مثل الاتّحاد السّوفييتيّ، ويوغوسلافيا، وتشكوسلوفاكيا، وصربيا، ثم ألبانيا لينتقل حَبْلُهُ، بعد ذلك، إلى بلدان الجنوب متّخذاً أشكالاً أخرى. لعلّ الفارق بين الحالتيْن أنّ التّفكيك في روسيا وشرق أوروبا ووسطها اتّخذ شكل تمزيق الوحدة الكيانيّة بعمليّات الانفصال القوميّ للقوميّات الصّغرى عن المركز والكيان، فيما هو سَلَك لنفسه سبيلاً آخر هو: تدمير الدّولة القائمة وإعادة تشديد سلطة مرقَّعة من أمشاج أهليّة عصبويّة وطائفيّة ومذهبيّة: على مثال ما حصل في الهندسة السّياسيّة الكولونياليّة الجديدة للنّظام السّياسيّ في دولٍ مثل أفغانستان والعراق بعد غزوها في بداية القرن الحالي.
الهندسةُ السّياسيّة عينُها رُسِمت – لكن فشلت – للكيان السّوري من قِبَل مبعوث الأمين العامّ للأمم المتّحدة لإدارة الأزمة السّوريّة، ولعلّها تُطِلّ برأسها من جديد في كثيرٍ من الكلام الغربيّ عن تسويّة الأزمة اللّيبيّة. أمّا الحالتان الوحيدتان النّاجحتان لعمليّة تفكيك دول الجنوب من طريق إنجاح مشاريع الانفصال فكانتا في إندونيسيا – التي انفصلت عنها تيمور الشّرقيّة – والسودان الذي تحوّل إلى كيانين. في الأحوال جميعها، وأيّاً كان الشّكل الذي تتّخذه عمليّةُ التّفكيك في بلدان الجنوب (تشجيع الانفصال أو هندسة نظامٍ سياسيّ انقساميّ)، فإنّه ليس تفصيلاً عادياً أنّ هذا التّفكيك لم يمسّ من بلدان الجنوب إلاّ تلك التي تقع في الدّائرتين العربيّة والإسلاميّة من غير سواها.
 أطلقنا على هذه الهندسة السّياسيّة التّفكيكيّة، في كتابٍ سابق، اسماً هو: الهندسة الأنثروپو - سياسيّة؛ ومرتَكزُ التّسميّة إعادةُ تصميم إطار الهندسة السّياسيّة للنّظام لا على مفهوم الشّعب – كما جرتْ على ذلك تجربةُ تكوين الدّول والسّلطة فيها – وإنّما على مفهوم الجماعة الصّغرى الفرعيّة (القبيلة، العشيرة، الطائفة، المذهب، القوم أو الأقوام...)؛ أي على وحدات اجتماعيّة صغرى – وأحياناً ميكروسكوپيّة – داخل الجماعة الكبرى (الشّعب). هكذا استُعيض في هذه الهندسة الأنثروپو - سياسيّة عن الجماعة الوطنيّة (الشّعب) بالجماعات الأهليّة (العصبيّات المحليّة) لإعادة إنتاج سلطة جديدة ليس لها من الشّخصيّة الوطنيّة الجامعة إلا الاسم. 
ومع ذلك، جرت تلك الهندسة وتجري باسم حقوق الإنسان: باسم «حقوق» جماعات عُصبويّة في التّمثيل السّياسيّ، وفي الضّمانات الدستوريّة؛ أُسوةً بغيرها من الجماعات العصبويّة الأخرى؛ كما لو أنّ الأمر في هذه الجماعات الأهليّة يتعلّق بشعوب لا بعصبيّات محليّة داخل الشّعب الواحد، المثال الجليّ على ذلك، في دائرتنا العربيّة الإسلاميّة، هو مثال أفغانستان المُقام نظامُها السّياسيّ، بعد الاحتلال الأمريكيّ، على مقتضى الاحتصاص بين العصبيّات؛ ومثال العراق الذي خضع النّظام السّياسيّ فيه، الذي أقامه الاحتلال الأمريكيّ، للهندسة الطّائفيّة – المذهبيّة عينِها منذ صمّمه لها دستور پول بريمر.
أيُّ نظامٍ سياسيّ يمكن أن يعيش ويستقرّ فيما هو مبْنيٌّ على المحاصصة بين العشائر والطّوائف والمذاهب لا على تمثيل الجماعة الوطنيّة (الشعب)؟ إنّه نظام التّفرقة؛ الذي يشرْعِن استبدال الولاء: من ولاء للوطن والدّولة الجامعة إلى ولاءٍ للعصبيّة الأهليّة والطّائفة والمذهب. إنّه لا نظامٌ ولا دولة ولا وطن، ولكن شُبِّه لهم. والأسوأ من كونه «نظاماً» شاء له التكوين والخِلْقة أنّ يظل يشكّل، في المجتمع الذي يقوم فيه، بنيةً تحتيّة ملائمة لتفريخ مختلف الأنواع من الأزمات الانفجاريّة التي تذهب بالقوى المنخرطة فيها إلى الفتن والحروب الأهليّة الطّاحنة، أي إلى حدود تحويل الوطن والدّولة والاستقرار والشّعب إلى مشروع مستحيل التحقُّق. ما الذي يجري في بلدان الأنظمة السّياسيّة القائمة على هذا النموذج الأنثروپو - سياسيّ الانقساميّ غير هذا الذي وصفناه... والذي نراه؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"