حدود الشعر

23:17 مساء
قراءة 3 دقائق

يوسف أبولوز

مفهوم «الدورات الإبداعية» لم يرقَ إلى كونه مصطلحاً ثقافياً لا في الشرق ولا في الغرب، لكن دائماً هناك مؤشرات على هذه الدورات: .. في الرواية مثلاً كانت الرواية الرومانسية، فالواقعية، والواقعية أنواع وليست واقعية واحدة، ثم الرواية التاريخية، ثم الرواية التي تعتمد على أشخاص أو تستعير حَيَوات رموز سياسية تاريخية أو بطولية أو صوفية، ثم الرواية التي تعتمد على الوثيقة والمخطوط، وهكذا، مرّت الرواية عربياً وعالمياً في دورات إبداعية عديدة، ولكل دورة ظروفها الثقافية والسياسية والاجتماعية، كما لكل دورة كتّابها والمزاج الأدبي العام لأولئك الكتاب.

في الشعر أيضاً هناك دورات إبداعية، يمكن مُعادلتها هنا بمصطلح المدارس والتيارات الشعرية التي عرفتها الثقافة الغربية على سبيل المثال: الرومانسية، السوريالية، الرمزية، الغنائية، الصوفية، وغيرها من اتجاهات شعرية لم تكن حصرية على الغرب، بل قرأنا تصادياتها الأدبية في الشعرية العربية التي جاء الانقلاب الأكبر في تاريخها خلال أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين عند ظهور قصيدة التفعيلة وانكسار العمود الشعري وبعثرته في سطور تفعيلية كما هو معروف على يد روّاد هذه الحركة الفارقة في تاريخ الشعر العربي: السياب، الملائكة، البياتي، الحيدري.

السؤال هنا، وقد يكون سؤالاً مفاجئاً في هذا السياق، ما الذي تبقىّ للشعر لكي «يجرّب فيه»، أو «ينقلب عليه»، أو «ينبثق منه»؟.

العمود الشعري الخليلي جرى الانقلاب عليه، وبعد وقت ليس بالطويل، جرى الانقلاب على قصيدة التفعيلة بقصيدة النثر.

الآن.. ما هي الحدود الأخرى للشعر؟ هل يمكن طرح سؤال على هذا النحو.. «.. وماذا بعد قصيدة النثر؟». لا بل، طالما نتحدث عن مفهوم دورات إبداعية، يمكن القول إن قصيدة التفعيلة في الكثير من تجاربها النجومية في الوطن العربي قد أصابها شيء من التنميط والتكرار، وحتى قصيدة النثر وصلت هي الأخرى إلى التشابهات والاستنساخ ووقعت في المكرر واستهلكت الكثير من توتّرها الداخلي والخارجي الذي اعتمدت عليه في انقلابها على الوزن برمّته، متجاوزة بذلك قصيدة التفعيلة التي أبقت على شعرة معاوية العروضية التي تربطها بالعمود الخليلي.

لكي نكتب شعراً نجرّب فيه من جديد، وننقلب، بالتالي، على الشبه والنمط، ثم، ننبثق من الرّاهن إلى آفاق جديدة بكل معنى الكلمة، علينا أن نقرأ جيداً حياة الشاعر أولاً. هل هي حياة غزيرة غنية حيوية خصبة أم هي حياة شمعية، بطيئة، راكدة، جامدة؟.

الشاعر هو الأساس. ثم البيئة الاجتماعية والثقافية وحتى الاقتصادية، وأخيراً يأتي الشعر.

لا يتجدّد الشعر إلاّ بتجدّد الشاعر نفسه. والمقصود تجدّده الحياتي، والشخصي، والإنساني، والمادي، والمعنوي.

لن تتوقع شعراً يتحدث عن الحياة من شاعر «ميت»، والموت هنا معنى مجازي بالطبع، والشاعر المحبط لن يكتب شعراً عن الأمل، كما أن الشاعر الخشبي لن ينجب شجرة أو وردة أو عشبة، والشاعر المريض لن يحدثك عن حفلة شواء أو السباحة في البحر.

فاقد الشيء لا يعطيه، الشاعر المسكون بالكراهية والحسد والعنف والجريمة لن يكتب شعراً عن الحب. والشاعر الذي ينام جائعاً أو خائفاً أو مضطرباً لا تتوقع منه أن يحلم بقصيدة وردية مائية.

الشاعر المتشائم لا تتوقع منه أن يبشّر بالتفاؤل والمستقبل والحلم.

الدورة الإبداعية هي قبل أي شيء آخر دورة بشرية إنسانية، والشاعر هو وحده من يجيب عن السؤال الوجودي الذي طُرِحَ قبل قليل: .. ما هي الحدود الأخرى للشعر؟، أين هي تلك الأرض التي لم يطأها الشعراء بعد؟، أرض الكتابة، وأرض الولادة الجديدة.

قبل سنوات ظهرت دعوة مفتوحة لما سمّي آنذاك: «الكتابة الحرّة»، أو «النصّ المفتوح»، أو «النثر الحرّ»، وإن اختلفت المسمّيات فإن جوهرها واحد، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن هذه المسمّيات في حدّ ذاتها هي «الحدود الأخرى للشعر» هي، الأرض الأخرى للكتابة. أرض التجديد والتجريب والولادة والانبثاق، لكن إلى اليوم لم يظهر جنس أدبي عربي مستقل يمكن أن يتموضع تحت مسمّى: «كتابة حرّة» أو «نص مفتوح».

هذه الكتابة العربية المنتظرة كان لها إرهاصات محدّدة تماماً، ونائية تماماً، إرهاصات حلمية لا أكثر، وضمن تجارب غير موصولة وغير متصلة ولا تشكل حالة كتابية أو ظاهرة أدبية، لكن رغم كل ذلك تبشر هذه الإرهاصات بأرض أخرى للكتابة العربية. تبشر بكتابة قادمة في إطار دورة إبداعية أكثر شمولية في الرواية والشعر أساسها النثر الذي يعني حرية الكتابة، وقبل ذلك حرية الإنسان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"