الفردانية والعولمة

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

لم تكن العولمة هي من أحدث هذه الموجة الجديدة من الفردانية التي يشهد عليها العالم، اليوم، ولكن يعود إليها  قطعاً  دور توفير الحوامل لكوننتها وترسيخها، مثلما يعود إلى مؤسساتها الدولية دور فرض احترام أحكام قوانينها التي سنت بالكره، وباسم القانون الدولي، على حساب حرمة منظومات التشريع الوطنية والسيادات القانونية. والأنكى من الفرض القسري لتلك القوانين، فرض إلزامية تطبيقها على الدول والبلدان كافة، ووضع أحكام عقابية لكل انتهاك تأتيه الدول لتلك القوانين.
ينبغي أن ندرك ابتداء، المنطق السياسي للعولمة وما يحويه من أهداف تحملها قواه تجاه البلدان والمجتمعات التي يقع عليها فعلها كعولمة، كي ندرك  بالتبعة  الصلة التي تربط الفردانية بالعولمة، والمكانة التي تشغلها الفردانية في منظومة وسائل العولمة لفرض نفسها.
ينزع منطق العولمة، وآلياتها الداخلية الدافعة، إلى تحطيم الحدود وتوحيد العالم، توحيداً قسرياً، في فضاء واحد تحكمه قوانينها. هذا يعني أن من بين أهداف العولمة، ومن يديرونها من القوى الكبرى، اختراق السيادات الوطنية ومحو مفاعيلها الحمائية التي توفر وسائل ممانعة للدول الوطنية لصون داخلها الكياني ونسيجها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي من الاستباحة والإسقاط ومن ثمة، ممانعة الإدماج داخل الفضاء العولمي. كلّما أمكن اختراق الحدود والسيادات أمكن  بالتبعة  إضعاف كيانات الدول الوطنية وحملها، بقوة أحكام الأمر الواقع، على الخضوع لعملية التوحيد والإدماج. وكلما نِيل من قدرة الدول تلك على تحصين أمنها وحفظ سيادتها، انعكس ذلك على سيادتها وزاد هذه هشاشة، مما يسهل عملية الإدماج.
من تفاصيل هذه «الاستراتيجيا» أن يقع ضرب المقاومات الحمائية التي تنتصب حوائل في وجه العولمة. وهذه لا تتآكل أو تنهار إلا إن وقع محو الدولة الوطنية أو إضعافها إلى الحد الذي تفتقر فيه إلى الحد الأدنى من الميكانيزمات الدفاعية التي يتوازن به وجودها ويتأمن بقاؤها، لكن المستهدف الكبير من هذه العملية الإدماجية العولمية هي المجتمعات في المقام الأول. إنها هي جمهور هذه العولمة وقاعدتها التي تتوجه إليها لتعظيم المصالح. ولأن المجتمع لا يتماسك اسمنته الداخلي، ولا يتحقق انصهار قواه واندماجها إلا بالدولة، فإن استهداف الأخيرة يتغيا تجفيف ينابيع القوة والتماسك لدى المجتمع كي يسهل هضمه واستيعابه.
وكما يمكن للعولمة أن تنال من الدولة ومن المجتمع أو منهما معاً عن طريق تفجير التناقضات داخل الكيان الوطني (تناقضات بين الدولة والمجتمع وتحريض قوى الثاني على الأولى، تناقضات داخل المجتمع وبين مكوناته الدينية أو الأقوامية أو المذهبية أو العصبوية)، كذلك يمكنها أن تبلغ الهدف عينه من طريق تنمية التناقض بين الفرد والدولة، والفرد والمجتمع وتوسلها أداة للضغط والتدخل تحت عناوين مختلفة تبدأ باسم الدفاع عن حقوق الإنسان المعرضة للانتهاك من غير أن تنتهي بتفعيل مبدأ «حق التدخل». 
وليس من شك لدينا في أن الفردانية وفرت للاستراتيجيات العلموية الغربية مادة مثالية لتحقيق أهدافها المرغوبة في الإخضاع الكلي لإرادة الهيمنة. ولقد حشدت في مهمتها تلك جيشاً عرمرماً من القوى الليبرالية ومن منظمات المجتمع المدني، المدافعة عن الفرد وحقوق الإنسان، قوة فاعلة وضاربة تنهض بمهمات في ذلك المشروع العولمي. ويدخل في جملة هذه القوى المحشودة من يعي اتصال دوره باستراتيجيات القوى العولمية الكبرى، ومن لا يعيه مطمئناً إلى أنه يؤدي مهمة إنسانية نبيلة.
والحق أن تسخير العولمة لتلك الشبكة الأخطبوطية من القوى الليبرالية والمدنية لم يكن وحده يكفي لكسب معركة الفردانية ضد المجتمعات والدول. صحيح أنها قوى ميدانية تعمل على المسرح الاجتماعي والسياسي، وتؤلف حولها حزاماً من القواعد الاجتماعية يحملها ويشكل ذراعها. مع ذلك، كان على قوى العولمة أن تجند أدوات وأوراقاً أخرى: القانون الدولي، الاتفاقيات الدولية، التشريع والقرارات السياسية، الضغط الاقتصادي والابتزاز السياسي.. فهذه أفعل من غيرها لجهة إلزاميتها ولعوائدها السريعة. 
ولقد يكون البرنامج الإعلامي للعولمة أنشط فاعلياتها في استثمار ورقة الفردانية وبناء رأي عام عالمي حامل لفكرتها ومدافع عنها. ولقد كانت المنتجات التقنية والرقمية للعولمة نفسها من الوسائل الأفعل في إنجاز برنامج الترسيخ الكثيف للقيم الفردانية في مجتمعات العالم. ولا يملك المرء أن يتجاهل سيل النجاحات الهائلة التي أحرزت في العالم على هذه الجبهة. وآي ذلك ما يبدو على مستهلكي البرامج الرقمية من انخراط في العالم الفرداني، ومن العيش في قفص روابط افتراضية لا وظيفة لها سوى تهميش الروابط الواقعية للأفراد بمحيطهم المجتمعي وتفسيخها و«تحرير» الفرد منها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"