التعلم من دروس الآخرين

00:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

عندما نفتش عن أفضل نظام سياسي – اقتصادي يؤمن بمبادئ ومكونات العدالة الاجتماعية، ويعمل من أجل تفعيلها في الواقع الإنساني والدفاع عن ذلك التفعيل، ويساهم في تحسين فهم ومنطوق تلك المكونات والمبادئ وتحسين ظروف تطبيقها في الواقع لتكون مقبولة من أغلبية أفراد المجتمعات ورافعة لإنسانيتها، فمن الضروري أن نعرف خلفية ولادة ومسيرة النظامَين السياسيين والاقتصاديين اللذين هيمنا على المساحتين العالميتين عبر القرون الثلاثة الماضية. الأول ما توافق الناس على تسميته بالنظام الليبرالي الرأسمالي، والثاني هو النظام الاشتراكي بتلاوينه الماركسية المختلفة.
  لقد ولد كلا النظامين من رحم أفكار الأنوار الأوروبية التي قادت إلى مطالب العصرنة والحداثة. وضمت تلك الأفكار والمطالب ما يلي: 
ضرورة إجراء تحولات جذرية في الاجتماع والسياسة، الأهمية الكبرى للحرية الفردية، الإيمان بأن التقدم ظاهرة حتمية، وأن أحد أهم وسائل مسيرة ذلك التقدم هو المساواة في المواطنة وانتشار وترسيخ العقلانية بدلاً من الخرافات والغيبيات (ما سيهيئ لتنمية رأي عام مستنير)، ممارسة المواطن لحقوق سياسية متعددة تقود إلى نظام حكم ديمقراطي تمثيلي ووجود مجتمع مدني نشط وفاعل في الحياة العامة مواز بندية لقوة سلطات الدولة، وأخيراً، وكاستجابة لانتقال المجتمعات الأوروبية من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، إعطاء أهمية كبرى لأن تكون المجتمعات منتجة اقتصادياً، على أن يخضع ذلك الإنتاج الاقتصادي لشروط التبادل التجاري الحر المستقل إلى حدود كبيرة عن تدخلات الدولة.
  وهناك تفاصيل وتجاذبات كثيرة حول كل فكرة ومطلب لسنا معنيين هنا بها. المهم أنه بمرور الزمن أنها جميعاً لم تتحقق في الواقع كما أراد أصحابها لها: إما لأن جهات مستفيدة شوهتها وحرفتها واستعملتها لمصلحتها، وإما لأن البشرية أعجز من أن تحمل مسؤولية تلك الأفكار والمطالب التغييرية الهائلة وتدافع عنها، أو لأن واقع الحياة وتطوراتها المتلاحقة جعلت بعضاً من تلك الأفكار والمطالب خارج الزمن وتحتاج إلى تعديلها أو استبدالها.
 والمهم أيضاً أن نعرف أن النظامين الرأسمالي والاشتراكي لم يعرفا كيف يستفيدان بصورة صحيحة وعادلة وشاملة مما كانت الأنوار والعصرنة قد طرحته.
  الآن في هذه اللحظة، هناك في بلدان منشأ الأنوار والعصرنة شكوك كثيرة حول ما طرحا، وهناك مطالب متعاظمة بمراجعة الإيديولوجيتين الراسمالية والاشتراكية، إذ كلتاهما تعيش أزمة حقيقية، هما ومن يحملهما من أحزاب وحكومات وأفراد، خصوصاً في ضوء ما رآه القرن السابق من جرائم حقوقية باسم الاشتراكية والفاشية، وما يراه قرننا الحالي من ظلم وفقر وأزمات باسم النيوليبرالية، خصوصاً في ضوء الصعود الحالي للشعبوية وللوطنية العنصرية ولأنواع كثيرة من الصراعات الجندرية والدينية.
  الحديث عن بديل ثالث يجمع أفضل ما في الاثنين كثير ومتعدد، لكن ما سيقود إليه غير معروف ومبهم. لكن ما يحز في النفس هو العودة إلى تأكيد البديهيات بعد ثلاثة قرون من ادعاء الأنوار والحداثة.
  المهم أن فتح باب النقاش حول النظام السياسي – الاقتصادي الصالح لبلاد العرب والضامن لقيام دولة العدالة الاجتماعية لا يستطيع أن يتجاهل تلك الخلفية التي فصّلنا بإيجاز، حتى ولو كانت لمجتمعاتنا العربية خصوصياتها وظروفها. لكن يجب أن تبقى التجارب العربية المختلفة، عبر سنوات ما بعد الاستقلال الوطني، هي المحور الأساسي الذي يجب أن يقود ذلك النقاش وتلك المراجعة من أجل الوصول إلى نظام سياسي – اقتصادي عربي حديث عادل وخادم لمطالب العدالة الاجتماعية، بحيث تتبناه الجماهير العربية وتناضل من أجله.
 تلك المراجعة يجب أن ترفض الشطط في الفردية، حرية ومعيشة، وأن ترفض وجود فقر أو وجود غنى فاحش، أو هيمنة حرية الأسواق من دون ضوابط تضعها دولة الرعاية الاجتماعية، أو غياب ديمقراطية شرعية تمثيلية، أو هيمنة الخرافات على العقلانية، أو استعمال الدين بانتهازية وبتبريرات منحازة للظلم ولحكم فئة في الحياة السياسية، أو إضعاف وجود مجتمع مدني نشط وفاعل ومستقل عن سلطة الدولة، أو امتلاك وسائل الإنتاج الاقتصادي وخيراته من قبل أقلية، أو تخلّي الدولة عن التزاماتها في توفير الخدمات الاجتماعية من مثل التعليم والصحة والعمل والسكن، أو هيمنة قوى الحكم على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي واستغلالهما من دون تنظيم ذلك من خلال القوانين التشريعية والقضاء المستقل فقط.
نحن العرب، نحتاج إلى نظام كهذا، بمواصفات كهذه. أما التسميات فليست هي المشكلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"