مفارقات كيمياء المطبخ

00:09 صباحا
قراءة دقيقتين

لماذا لم يسبق أي شعب الفرنسيين إلى مقولة «المطبخ كيمياء»؟ مبدئياً، ليس من السهل تحديهم في هذا المجال. صدق المعري: «أرى العنقاء تكبر أن تُصاداَ.. فعاند من تطيق له عناداَ». لكن باريس لم تتبوأ عرش فن حسن الأكل (جاسترونومي)، لنبوغ بطني فيها، لهذا عليها ألاّ تحمل بطيختين تحت إبطيها وتمشي في الأرض زهواً، فالفضل يعود إلى الثورة الفرنسية. قبل 1789، كان الملوك والأمراء والأرستقراطيون في أوروبا، من روسيا إلى إسبانيا، مروراً بالبلدان الإسكندنافية، وحتى من الشرق الأقصى، يملكون قصوراً في مفاتن الطبيعة الفرنسية، وكانوا يجلبون معهم طهاتهم، فلما زلزلت الأرض بالثورة، فرّ أصحاب القصور، وظل الطباخون، فنزحوا إلى العاصمة، وأنشأوا فيها مطاعم، صارت حدائق الذوق المطبخي الفرنسي.
للمطبخ والمائدة في ميراثنا الثقافي مفارقات. إذا صح أن الأدب عندنا مشتق من المأدبة، فإن أسوأ المؤلفات حظاً في تاريخنا، كتب فن حسن الأكل، الإحساس بجمال الأكل، فن تذوّق الطعام. كان التأليف فيها يحط من قدر الكاتب. الأكل في تراثنا نهم والتهام، مكروهان: «البطنة تُذهب الفطنة»، بينما كان الروائي الفرنسي بلزاك، طاهياً كبيراً، له: «قاموس المطبخ»، ووصفاته الخاصة المنتشرة في أوروبا، ومطاعم تحمل اسمه.
ما قيل شعراً في الفواكه والثمار والمأكولات والحلويات، يؤخذ عادة على محمل الطرائف والمُلح. في المقابل نجد إسهاباً في الحديث عن آداب الأكل، لدى أبي حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين»، وسائر كتب الفقه، ما يكاد يوهم بأن المخاطبين المعنيين، هم بتعبير الأشقاء المصريين «قلالة الأدب» عند الطعام، في حاجة إلى «علقة» قبل الملعقة. أما في كبريات الصحف الفرنسية (لوفيجارو، لوموند..)، فلا تخلو واحدة من زاوية «جاسترونومي»، وهي زوايا أدبية من الطراز الرفيع. العلة لدينا قرونية. تخيّل العقاد، طه حسين، الرافعي.. يكتبون في تاريخ طبق معيّن وتطوره عبر العصور. سيبدو الأديب الجليل وكأنه إسماعيل ياسين مرتدياً فستاناً مع أحمر شفاه وباروكة بضفائر. المأساة أوسع نطاقاً، ففي أغنية «أنت عمري»، استعمل محمد عبدالوهاب الجيتار الكهربائي، فقال العقاد: «خرجت أم كلثوم عن وقارها».
عام 1988 ابتكر الفيزيائي الكيميائي الفرنسي «هيرفيه ذيس»، ونظيره البريطاني الهنجاري «نيكولاس كورتي»، مصطلح: «المطبخ الجزيئي»، الذي يكاد يطالب الإنسان بأن يكون عالم فيزياء وكيمياء، حتى يتقن صنع المايونيز. هل تريد أن تعرف التخصص العلمي الذي يتطلبه التعامل مع بيضة؟ ملفات بعشرات الصفحات المصورة على الشبكة تنتظرك.
لزوم ما يلزم: النتيجة التراجيكوميدية: لو سمع القدامى بذلك لأمروا بجلد دارسي الكيمياء والفيزياء، على الملأ في الأسواق.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"